لقد بيَّنا منذ أسبوعين كيف انقلبت ممارسة دينية إسلامية أساسية من مثل صوم رمضان إلى عادات اجتماعية لا تمتُّ بصلة الى وهج وحيويَّة ومقاصد الأمر الإلهي. ومنذ أسبوع بينَّا كيف أن الجمود في إجراء قراءات دورية للنصوص الإسلامية الأساسية أدَّى إلى بقاء الكثير من الأسئلة الكبرى التي يطرحها العصر على المسلمين من دون إجابات واضحة محسومة. ومازالت الخلافات بشأن تلك الإجابات محتدمة في الأوساط الدينية والفكرية والسياسية والاقتصادية لأسباب مختلفة.
في اعتقادي أن أحد أسباب هذا النقص في عملية الحسم هو غياب المؤسسة الإسلامية القادرة على النظر في جميع جوانب الأسئلة المطروحة. ذلك أن تعقُّد الحياة في عصرنا الذي نعيش وسرعة التغيرات العلمية والتكنولوجية والمجتمعية الهائلة تجعل من كل قضية مشكلة معقَّدة متشابكة. وهذا بدوره يجعل الوصول إلى حلِّ متوازن لأية قضية أو مشكلة يتطلب الاستعانة بالكثير من حقول العلم والمعرفة. ومن هنا فإن قيام مؤسسات اجتهادية إسلامية قادرة على الإجابة على أسئلة المسلمين العصرية سيتطلب ألا تضمَّ فقط مفكرين وفقهاء إسلاميين، وإنما أيضاً علماء في العلوم الطبيعية والبيولوجية والاجتماعية والإنسانية والطبيَّة وغيرها.
ان قضيَّة من مثل حدود استعمالات الهندسة الجينية في الطب والزراعة بحيث لا تتعارض مع الرسالة الإلهية لا يمكن التعامل معها إلاّ من قبل فريق متكامل يضمُّ في من يضمُّ فقهاء وعلماء بيولوجيا وعلوم نفس واجتماع وغيرهم. والأمر نفسه ينطبق على قضية العلاقة بين الدين والدولة، إذ إن النظر فيها يحتاج إلى فقهاء وعلماء اجتماع وسياسة وغيرهم. ومن المؤكد ان الاجتهاد الفقهي في مثل هذه القضايا لا يمكن ان يكون عند كبار فقهائنا الأقدمين الذين عالجوا أسئلة وقضايا عصرهم بورع وذهن إبداعي متَّقد. وإنما هو يحتاج الى فقهاء عصرنا الحالي ليُعملوا العقل والعمق الفكري والالتزام بمصالح العباد، وبالتعاون المتناغم والاعتماد على أبحاث وعلم علماء الحقول الدنيوية الكثيرة، وذلك من اجل تقديم الإجابات والحلول المعقولة المتوازنة. طبعاً إننا نتكلم هنا عن مؤسسات أهلية غير رسمَّية مستقلَّة مالياً وإدارياً حتى تستطيع ان تمارس مهمتها بحرية وضمير.
السؤال الذي يطرح نفسه بمرارة واستغراب هو: كيف ان حاجة كبرى من مثل تلك التي وصفنا لم يلتفت إليها أحد بعد؟ ثم انه كيف استطاع الأقدمون تأسيس مدارس فقهية متعدّدة سهَّلت الحياة على مسلمي تلك العصور، بينما يبقى فقهاء عصرنا هذا يتفرَّجون على حيرة المسلمين ويسمعون أسئلتهم الجديدة ثم لا يفعلون إلاّ اجترار فقه الماضي، وفي أحسن الأحوال التقدم باجتهادات شخصية فرديَّة لا تُلمُّ بتعقيدات الحياة ولا بمنجزات حقول المعرفة المتعدِّدة؟ أحقاً أن مسلمي عصرنا لا يحق لهم أن يروا قيام مدارس فقهية جديدة ينتمون إليها لأنها تروي عطش التقوى عندهم؟
ليست هذه أسئلة هامشية ولا هي باللجاجة الفكرية. فالفوضى التي يشاهدها الإنسان أمامه في الحياة الإسلامية، والتي تدفع بالبعض إلى فهم خاطئ لموضوعات خطيرة من مثل الجهاد أو الشورى أو حقوق المرأة الإنسانية، تحتِّم ان يجيب عليها المفكرون الإسلاميون، إذ يكفي ان يستمع أحدنا إلى فقهائنا المطلِّين من شاشات التلفزيون وهم يجيبون على بعض الأسئلة الصعبة التي تطرح عليهم، وكيف إنهم يفتشون عمّا قاله الأولون وهم يعرفون أنهم لن يحصلوا عليها هناك... يكفي أن يستمع ليصاب بالذهول ممَّا وصل إليه الحال.
إذا كان العرب يفشلون في بناء مؤسسات عصرية كفؤة فاعلة لحلِّ مشكلاتهم الدنيوية ويفشلون في بناء مؤسسات عصرية كفؤة قادرة على الإجابة على أسئلتهم الأخروية، فما الذي يبقى في حياتهم؟ هل نرضى حقاً بأن نمارس العبث الوجودي ونعيش وحدته القاتلة؟
مفكر بحريني
إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"العدد 1142 - الجمعة 21 أكتوبر 2005م الموافق 18 رمضان 1426هـ