رحلة البحث عن اجوبة لأسئلة قلقة طرحتها النخبة «الحداثية» لاتزال مستمرة حتى الآن. فهذه النخبة انطلقت من تفكير غير سوي انتج حالات من الهلع الثقافي أسهمت في تأسيس قراءات متوترة غير قادرة على الوقوف في مكان.
هذا الانتقال من حال إلى حال والقفز في الاستنتاجات والاستغراق في توهمات ايديولوجية عطل إمكانات تراكم المعرفة أو تركيز قناعات يمكن البناء عليها وتطويرها نحو أهداف تقارب الواقع وقوانينه. فمن سمات الثقافة الارتحالية التشتت وعدم الثبات والانتقال من فكرة إلى أخرى بسبب طبيعة المعاش ونمط الاستهلاك الذي يعتمد في آلياته على البضاعة لا الإنتاج. فطبيعة العمران البشري لا تساعد على الاستقرار. وعدم الاستقرار يعني الطلاق الدائم مع الماضي والانقطاع عن المستقبل والعجز الموضعي في صوغ علاقة تراكمية مع الحاضر. وهذا النوع من الثقافة في التفكير انتج ما يشبه سلة من الايديولوجيات المنتجة في جغرافية سياسية (اوروبية) بعيدة عن جغرافية الاجتماع ونسقه العمراني. وبطبيعة الحال كانت النتائج المتأتية عن هذا النوع من الثقافة الارتحالية الاصطدام الدائم مع الواقع والفشل في التوصل إلى إنتاج قواعد عمل للتصالح بين النخبة والأهل أو بين الدولة والمجتمع.
عدم الاستقرار العمراني أسهم في تعطيل إمكانات إنتاج تسوية تقوم على ثقافة مستقرة (ومستقلة) تتصل بماضيها ومستقبلها انطلاقاً من نزعة تشجع على اكتشاف الخلل في حاضر الناس. فغالبية الثقافات «النخبوية» العربية والإسلامية المعاصرة تتصارع على مشكلتين يمكن السيطرة عليهما في حال اكتشفت قوانين الحاضر. ولكن المشكلتين المفتعلتين استبعدتا إمكان الالتقاء بين نزعة «ماضوية» تشد الرحال إلى ما سبق. ونزعة «مستقبلية» تتهرب من الاجابة عن أسئلة الحاضر.
وبين ثقافة «ماضوية» وأخرى «مستقبلية» ضاع الحاضر العربي/ الإسلامي وتفكك إلى مجموعات «حداثية» تتكلم لغات (ايديولوجيات) غير متجانسة لا تملك أدوات المعرفة ولا وسائل التغيير.
الانقسام بين ماضٍ مضى ومستقبل غائب انتج منهجية غير متصلة بحاضر متأزم يطرح على المثقف المأزوم أسئلة صادرة عن واقع يتعرض إلى إعصار تاريخي/ جغرافي ويهدد حضارته بالتقويض من مختلف الجهات.
رحلة البحث عن اجوبة لأسئلة قلقة لاتزال حتى الآن مستمرة ويتوقع لها ان تستمر مشدودة إلى نزعتين واحده تنظر إلى الامام هرباً من الحاضر وأخرى تنظر إلى الخلف خوفاً من واقع التحديات. وهذه النتيجة المأزومة تتحمل مسئوليتها النخبة «الحداثية» التي بحثت عن اجوبة في جغرافيا سياسية مغايرة (اوروبا) توفقت في تأسيس وعي تاريخي استند إلى ثقافة المكان وزمانه. فالنهضة الأوروبية لم تستورد من الخارج ولم تتطور خارج مكانها وزمانها. كذلك لم تتهرب النخبة الأوروبية من حاضرها وانما اجتهدت في البحث عن عناصر الخلل في واقعها من دون عقد نقص أو تردد أو اتكال. فالنخبة الأوروبية استفادت من نتاجات الغير واعادت تأسيسه وصوغه في سياقات لا تخرج عن نسق ثقافتها. وكذلك نظرت إلى المستقبل من دون قطع مع الماضي بل اتجهت نحو توظيف «التراث» معيدة قراءة ما قدمه للإنسانية مستخدمة أدواته المعرفية لتشغيل الات الحاضر وتحريكها نحو المستقبل.
النخبة الأوروبية السباقة لم تسقط في اخطاء النخبة العربية/ الإسلامية واوهامها. فهي لم تقطع مع الماضي ولم تغادر حاضرها إلى مستقبل غائب وغير منظور. فمعظم المثقفين الأوروبيين في عصر نهضة القارة عادوا إلى التراث واطلعوا على ما قدمته الحضارة اليونانية من أفكار وفلسفة وتجارب ودرسوا ما اعطته الحضارة الرومانية من عمران ودساتير وقوانين... وبعدها اعادوا تأسيس تصوراتهم المعاصرة انطلاقاً من تلك التجارب في إطار نسق ثقافي لا يخرج عن السياق الجغرافي/ التاريخي. والنخبة الأوروبية أيضاً لم تقطع مع الدين (المسيحية) بل انطلقت منه معتبرة اياه مادة بشرية حيوية لا يمكن التقدم إلى الأمام من دونها.
في حال العودة إلى النصوص الأوروبية (المناهج) يمكن ملاحظة هذه التسوية بين الماضي والحاضر في قراءة المستقبل. فالنصوص قرأت التراث اليوناني الفلسفي والأدبي والتاريخي واستلهمت منه الكثير من المواد المنهجية لإعادة تأسيس معرفة أوروبية معاصرة. كذلك استفادت النصوص الأوروبية المعاصرة من الدستور الروماني وتجربة العمران في تلك الحضارة المنقرضة. كذلك وجدت تلك النصوص في الدين (المسيحية) مادة أخلاقية تحث على العمل وتدفع نحو الاجتهاد والإنتاج. حتى أن المثقفين الأوروبيين عادوا إلى الفكر الإسلامي والثقافة العربية وانكبوا على نصوصها وأخذوا ما بوسعهم من تجربة تاريخية كان لها أثرها الكبير على تحريك اليقظة الأوروبية في محطات زمنية مختلفة.
هذا الوعي المركب من مجموعة عناصر وروافد لم تدركه النخبة «الحداثية» العربية/ الإسلامية. فهي اطلعت على نهاياته ولم تقرأ بداياته وكيف توصلت أوروبا إلى إنتاج نهضتها من خلال المزج المعقد بين الماضي والحاضر والمستقبل. فالنهضة الأوروبية لم تُنتَج خارج زمانها ومكانها ولم تصل منجزة إلى القارة وإنما أسهمت العقول والسواعد في بناء هرمها خطوة خطوة وطبقة طبقة ضمن عملية تراكمية معرفية انصهرت في حالات وحركات ومدارس ومناهج وفلسفات. فالثقافة لم تؤسس النهضة وإنما النهضة الأوروبية أسست ثقافتها. وعملية النهوض جاءت في سياق تراكمي متكامل ومن دون انقطاع بين جيل وآخر. ولأنها كذلك لم تقتصر أفكارها على الأسئلة وإنما نحت باتجاه البحث عن أجوبة غير جاهزة. ولهذا تأسست الثقافة على نوع من الاستقرار الذهني تترابط في آلياته الداخلية سلسلة حلقات بدأت بالاكتشافات الجغرافية وحركة الإصلاح الديني والعودة إلى التراث اليوناني/ الروماني / المتوسطي حتى توصلت إلى إعادة إنتاج هياكل تنظيمية متقاربة مع حاجات الواقع وضغوط التطور.
النهضة الأوروبية شاملة، فهي لم تقتصر على الفكر أو الشعر وإنما امتدت لتشكيل خصائص متقاربة تعكس سلسلة متطلبات متصلة بالمعاش والاقتصاد والآلة وتوسيع السوق وزيادة الإنتاج وتلبية نزعة الاستهلاك. فالنهضة فكرية/ ثقافية في جانب منها بينما الجوانب الأخرى موصولة بالاقتصاد والاجتماع والمؤسسات ودور الدين في تشكيل قوة دفع تحرك الإنسان نحو المزيد من العمل لبناء دولة متصالحة مع المجتمع.
النخبة الأوروبية تصالحت مع أهلها ولم تشتم التخلف وتلعنه بالمقالات والقصائد وإنما اجتهدت لاكتشاف الخلل في حاضرها وانطلقت من الواقع باتجاهين: الماضي والمستقبل.
هذه العملية التاريخية التي أنجزتها النخبة الأوروبية لم تصل بوقائعها الميدانية إلى النخبة «الحداثية» العربية/ الإسلامية. فالأخيرة بدأت من المنجز ظناً منها أن الارتحال إلى تلك «الواحات» الأوروبية يغني الإنسان العربي المسلم عن عناء التعب والبحث والتفكير والإنتاج وبذل الجهد للتوصل إلى صيغة متقدمة تتكيف مع حاجات العصر ومتطلباته. ولهذا السبب عانت الثقافة الارتحالية من كثرة الانتقال وانتهت إلى تبطل فكري وعجز عن الممانعة وضعف عضوي يعطل إمكانات الصمود أو المقاومة. فالاستسهال فرّغ النخبة من عصبها وجوّف عقلها وعطّل ملكات التفكير وآليات البحث عندها ودفعها نحو الانزواء أو القلق وأحيانا الخوف من الآخر الآتي من الماضي أو المستقبل.
حتى الآن لاتزال النخبة «الحداثية» تستهلك نفسها وغيرها وتجتر مقولات منجزة وجاهزة مستبعدة مهمة إعادة التفكير والاستنباط والاستقراء من جدول أعمالها. هذه الرحلة لم تنته ويتوقع لها حين تنتهي أن تصل إلى قاع صفصف لا ماء فيه ولا هواء
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1141 - الخميس 20 أكتوبر 2005م الموافق 17 رمضان 1426هـ