العدد 1140 - الأربعاء 19 أكتوبر 2005م الموافق 16 رمضان 1426هـ

درويش... هموم قديمة وجدل عقلي

في مجموعة الشاعر الفلسطيني الكبير محمود درويش الجديدة "كزهر اللوز أو أبعد" نلتقي أمورا عدة بينها مشاغل وهموم من تلك التي حملها الشاعر في رحلة العمر. .. وأحزان وخط الشيب لهبها. عدد من قصائد المجموعة يشبه محطات قد يصح أن يطلق على كل منها "استراحة المحارب" ويبرز فيها تركيز على شيء من العمل العقلي تحمله الى القارئ قدرة فنية وصنعة مكينة تجعلانه أشبه بجدل عقلي وقد حيك بنبض شعري لا يشوب التجربة الشعرية فيه برد أو إعياء. عمل الزمن ولمساته النفاذة ونثره الرماد فوق نيران النفس وتحويلها في افضل الاحوال إلى جمر داخلي يحرق أكثر مما يدفئ يظهر في القصائد عامة بأشكال أشد واقوى مما تعكسه لنا صورة الشاعر نفسه على الغلاف وقد تخلل الشيب الحاجبين وغزت فضته قسما من شعر الرأس وبدت في العينين وانطباق الشفتين نظرة تتوزع بالتساوي بين حزن من ناحية وبين سخرية وشك من ناحية اخرى هما من سمات من يشهد كثيرا ويتألم كثيرا. المجموعة التي صدرت عن دار رياض الريس للكتب والنشر في بيروت جاءت في 197 صفحة متوسطة القطع وضمت 34 قصيدة ادرجت تحت عناوين رئيسية هي "انت" و"هو" و"انا" و"هي" واربعة عناوين اخرى حملت كلها عنوانا هو "منفى" بأرقام من واحد الى اربعة لتشكل أربعة مناف. ويبدو درويش كمن يقطع الطريق على القارئ الذي قد يشير الى سمات جديدة اضافية في شعره فنجده يستبق ذلك بمقدمة قصيرة للمجموعة هي كلام نقدي بل جمالي لافت من "الامتاع والمؤانسة" لابي حيان التوحيدي يقول فيه: "احسن الكلام ما... قامت صورته بين نظم كأنه نثر ونثر كأنه نظم". في باب "انت" قصائد تبدو حسابا عقليا للعمر في يومياته الصغيرة وفي الاحلام الكبيرة فكأن فيه دعوة الى عدم نسيان الآخرين او كأن فيه تعزية لأن هناك من هو اتعس منا واسوأ حالا. وقدرة درويش تبعد عن هذه القصائد برودة العمل العقلي التقريري. وهناك قصائد اخرى هي صور شعرية للعمر الآفل والسنوات الهاربة. اولى قصائد الفئة الاولى جاءت تحت عنوان هو "فكر بغيرك" وفيها يقول الشاعر: "وانت تعد فطورك فكر بغيرك لا تنس قوت الحمام وانت تخوض حروبك فكر بغيرك لا تنس من يطلبون السلام وانت تسدد فاتورة الماء فكر بغيرك من يرضعون الغمام وانت تعود الى البيت بيتك فكر بغيرك لا تنس شعب الخيام وانت تنام وتحصي الكواكب فكر بغيرك ثمة من لم يجد حيزا للمنام وانت تحرر نفسك بالاستعارات فكر بغيرك من فقدوا حقهم في الكلام وانت تفكر في الآخرين البعيدين فكر بنفسك قل... ليتني شمعة في الظلام". ومن ذلك أيضا إذ يبدو النظم والنثر شبه توأمين كما في قول ابي حيان التوحيدي المذكور قصيدة "ان مشيت على شارع" التي يقول فيها: "ان مشيت على شارع لا يؤدي الى هاوية قل لمن يجمعون القمامة... شكرا إن رجعت الى البيت حيا كما ترجع القافية بلا خلل قل لنفسك... شكرا إن توقعت شيئا وخانك حدسك فاذهب غدا لترى اين كنت وقل للفراشة... شكرا... إن نهضت صباحا ولم تجد الآخرين معك يفركون جفونك قل للبصيرة شكرا إن تذكرت حرفا من اسمك واسم بلادك كن ولدا طيبا ليقول لك الرب... شكرا". ومن نماذج صور العمر او جردة الشعرية وهي جردة إنسانية رائعة مؤثرة يوردها الشاعر بنار هادئة ساخرة وهذه أشد النيران هولا إذ يكتشف الانسان ان قافلة الحياة تستمر وكأنه لم يعد فيها بعد ان كان يتوهم ان لا غنى لها عنه... قصيدة يتحدث فيها درويش عن بلوغ بعض "قمم" هذا العمر أي مرحلة السنوات الستين التي وصل اليها وكأن الأمر حصل بغتة وعلى غفلة. اسم القصيدة هو "الآن في المنفى" والمنفى هنا هو البيت احد "محبسي" ابي العلاء المعري الشهيرين . يقول درويش: "الآن في المنفى... نعم في البيت في الستين من عمر سريع يوقدون الشمع لك فافرح بأقصى ما استطعت من الهدوء لأن موتا طائشا ضل الطريق اليك من فرط الزحام واجلك ... قمر فضولي على الاطلال يضحك كالغبي فلا تصدق انه يدنو لكي يستقبلك هو في وظيفته القديمة مثل اذار الجديد... اعاد للاشجار اسماء الحنين واهملك فلتحتفل مع اصدقائك بانكسار الكأس في الستين لن تجد الغد الباقي لتحمله على كتف النشيد... ويحملك قل للحياة كما يليق بشاعر متمرس... سيري ببطء كالاناث الواثقات بسحرهن وكيدهن. لكل واحدة نداء ما خفي... هيت لك ما اجملك ... سيري ببطء يا حياة لكي اراك بكامل النقصان حولي. كم نسيتك في خضمك باحثا عني وعنك. وكلما قلت بقسوة... ما اجهلك قل للغياب... نقصتني وانا حضرت ...لأكملك". نعود الى الشعري المؤثر الموحي مع قصيدة "مقهى وانت مع الجريدة جالس". يقول الشاعر: لا لست وحدك. نصف كأسك فارغ والشمس تملأ نصفها الثاني... ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين ولا ترى إحدى صفات الغيب تلك... ترى ولكن لا ترى كم انت حر ايها المنسي في المقهى فلا احد يرى اثر الكمجة فيك لا احد يحملق في حضورك او غيابك او يدقق في ضبابك ان نظرت الى فتاة وانكسرت امامها... كم انت حر في ادارة شأنك الشخصي مقهى وانت مع الجريدة جالس في الركن منسيا فلا احد يهين مزاجك الصافي ولا احد يفكر في اغتيالك كم انت منسي وحر في خيالك في قصيدة "لم ينتظر أحدا" يبدو العالم رماديا ويبدو الانسان وقد تخلص من جاذبية الامور اليومية والكبرى بل من جاذبية كل ما كان يشده اليه. يقول الشاعر: لم ينتظر احدا ولم يشعر بنقص في الوجود امامه نهر رمادي كمعطفه ونور الشمس يملأ قلبه بالصحو والأشجار عالية ولم يشعر بنقص في المكان المقعد الخشبي. قهوته. وكأس الماء والغرباء والاشياء في المقهى كما هي والجرائد ذاتها... اخبار امس وعالم يطفو على القتلى كعادته ولم يشعر بحاجته الى امل ليؤنسه... لم ينتظر شيئا ولا حتى مفاجأة فلن يقوى على التكرار... اعرف اخر المشوار منذ الخطوة الاولى... يقول لنفسه... لم ابتعد عن عالم لم اقترب من عالم





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً