العدد 1140 - الأربعاء 19 أكتوبر 2005م الموافق 16 رمضان 1426هـ

فسيفساء حتى الموت مللا

تونس العتيقة:

القباب إيقاع. الظلال سكون. الأسطح تقاسيم. وعطور المباني طرب وانتشاء. إنها تركيبة حية من الأحجار التي تخلد ذكرى الأجداد. هنا تونس العتيقة... لا يسعك إلا أن تطرق بابا من تلك الأبواب التي تعلوها شبابيك مقوسة وتزين صفحاتها مسامير نحاسية، أملا في أن تدخل دارا من هذه الدور التي حافظت على كل شيء من روح ساكنيها السابقين... إلا ما ندر. "دار ابن عبدالله، دار الأصرم، سيدي محرز، دار رسع، دار التريكي، دار المقدم، دار الوادي"... كلها أبواب لابد أن تطرق. دكاكين السوق العتيقة شحنة من التاريخ تفجر أحاسيس الزائر كما النور، لا مجال هنا لعدم التأثر... لكن التأثر، هنا، ليس هو كل شيء. ندخل من "باب البحر". باب البحر هو نقطة الفصل بين الداخل والخارج. خارج المدينة العتيقة وداخلها. ما إن تداعب أنفاسك رائحة هذا المعمار الطاعن في القدامة، والذي لايكاد يعيبه تعاقب السنين في شيء، حتى تأخذك أسئلة كثيرة تطال مخيلتك. أي أسرار تخفيها هذه الفسيفساء المعمارية؟ كانت البداية قلقة وربما صعبة أيضا. ولعلها ما كانت لتكون غير ذلك؛ إذ تاهت خطانا ونحن نفتش عن كلمة من هنا وهناك. كنا نبحث من بين كل هذه الوجوه العامرة، وجها تعلوه سمات الشيوخ ممن بلغوا في الكبر عتيا. كنا نظن أن أكبر ناس هذه المدينة سنا، هم حفظة تاريخها، أو على الأقل هم أكثرهم حرصا عليه. لم تكن الإجابات وافية، كلمات مستقطعة لا تعطيك حقيقة ما تراه وتلحظه من جدران وأبواب ونوافذ عتيقة في هذه السوق المكتظة بالمارة.

لمسة الطليان...

يقف في محله بابتسامة عريضة، فيما راح الكثير من الزوار يصطفون أمام محلته. أنواع عدة من الحلويات التي تتنافس مع ابتسامته في جذب الزبائن، لعل هذا ما شجعنا على الدخول وتكرار المحاولة، لعلنا نستدل على الدليل السياحي الرشيد. إذا هذا هو الحاج محمد الطيب المبزع "57 سنة". المفاجأة التي لم نكن ننتظرها. يقف في محله الذي ورثته عائلته منذ 173 سنة. كانت انطلاقة الرجل نحونا وترحيبه مدعاة ارتياح. انفرجت أساريرنا حين أبلغنا عن عضويته في المجلس البلدي لتونس العتيقة عشر سنوات. لقد فهم الرجل بفطنة الشيوخ ما نريد. ثمة بريق ضوء وجدناه بين عيونه، يوشوش ببطء: "لا تقلقوا... سأكون دليلكم". ومن هنا بدأت جولتنا مع محمد الطيب. أجابنا على بعض الأسئلة التي جئنا لأجلها، قبل أن يأخذنا مشيا على الأقدام نحو شارع الزيتون أو كما أخبرنا لاحقا بأنه كان يسمى "شارع الكنيسة". كانت تتقدم الشارع كنيسة بعثة بتونس "تم تحويلها الآن إلى مقر للمركز البلدي". "700 معلم تاريخي في هذه المدينة. منها قصور للطليان، حمامات، مساجد، آثار... إلخ". كانت كلمات متسارعة من الحاج ونحن نلاحق ما يجود به علينا من معلومات وتأريخ، يقول: "إن تاريخ هذا البناء المعماري يعود لما يزيد عن القرن. الإيطاليون من شيدوا هذه الصروح وأكملها الأتراك. وطبعا عمارتنا التونسية حاضرة". يضيف: "تتوزع هذه المعالم على مساحة تبلغ 4 هكتارات. تتقدمها السفارات الأجنبية. منها السفارة البريطانية". يتميز المعمار الإيطالي بالأحجام الطولية الفارعة التي تعلو طوابقها العلوية الزيادات الهندسية. عند النوافذ تلاحظ اختلافها عن البنايات العثمانية التي تتميز بالأقواس العربية والأبواب وبقصر طولها. البيوت تختلف باختلاف المستوى الاقتصادي للعائلة وتكون الغرف في البيوت الإيطالية عادة طويلة ومتسعة عرضا وطولا. العائلات هنا متوسطة الحال وبعضهم من الطبقة البرجوازية التي مازالت تحتفظ بمنازلها العتيقة. بينما الكثير منها هاجرت إلى الأحياء الأوروبية الحديثة بعد الاستقلال. البناء الإيطالي هو السائد. يقول الطيب: "تتفرق هنا وهناك بعض الأبنية العربية والتي تتشابه مع الأبنية الإيطالية، فالتونسيون استفادوا من الحضارات الأخرى التي احتلت بلادهم... في العمارة على وجه الخصوص". نرى في الأمام الكنيسة الإيطالية التي تحولت لأول مدرسة نظامية بتونس إبان الاحتلال الفرنسي، بإشراف سيدي صابر "يطلق عليه هنا نهج سيدي صابر"، وكان إماما للمنطقة "ولي". لعلنا أصبحنا قادرين على تمييز المعمار الإيطالي بطول البناء وأشكال النوافذ والأبواب المميزة. المباني الإيطالية تحولت إلى جمعيات اجتماعية وخدمية وثقافية، مثل "معهد حدماء مهد نهج الباشا" التي أسست منذ قرن من الزمان. يقول نائب رئيس بلدية تونس السابق: "إنها بمثابة الكلية بالمفهوم الحديث". أيضا، تنتشر هنا الجمعيات المهتمة بالتراث التي تصدر قوانين صارمة لتنظيم العمارة في تونس العتيقة وشارع الزيتون. إذ تقوم الدولة بإخضاع أي عملية ترميم لشروط خاصة وصارمة.

للأتراك بصمتهم أيضا...

في المعمار التركي "العثماني" ثمة اختلاف عما عرفناه في المعمار الإيطالي. بناء محكم الإغلاق، وباب حديد بعرض أربعة أمتار يتصدر هذا البناء القوي. يقول الطيب: "هذه ثكنة عسكرية تركية بناها جاه سلطان". الأقواس المترامية في الكثير من المباني كانت أولى مظاهر الأتراك والمعمار الإسلامي. ولعلنا وجدنا في المدرسة السليمانية التي أسسها علي باشا الأول 1754م ما كنا نبحث عنه. دار كبيرة يتوسطها فناء واسع. 26 أسطوانة تلتف بالفناء وجامع للصلاة تزين جدرانه تشاكيل "الجليز" الخزفي الملون بأشكال هندسية ونباتية. ثمة إحدى وعشرون غرفة ذات أبواب صغيرة وبجانب كل باب نافذة محاطة بإطار من الحجر السميك يسمى "الكذال"، بينما يعتلي سطح البناء قبب خضراء متوسطة الحجم تعطي المبنى صورته العثمانية الإسلامية. منذ مئة عام تحولت المدرسة إلى دار الجمعيات الطبية بالسليمانية. يقول الطيب: "كان يقيم بها طلاب الطب بجامعة الزيتونة، إذ يسكن كل طالبين في غرفة صغيرة طولها ثلاثة أمتار وعرضها متران". مقابر متفرقة هنا وهناك، مقبرة "سيدي علي عزوز" الذي هو أحد ملوك المغرب السابقين. أيضا، "مقبرة السلاطين الأتراك" التي توحي لك بان هؤلاء الموتى لا يمكن أن تنتهي أصداؤهم من هنا، إنهم الموتى الحاضرون.

منزل آل ونيش...

الأرض الطيبة يسكنها أناس طيبون. لم نكن نطمع في أن ندخل بيتا من هذه البيوت أو أن نجلس على موائدهم أو أن تكون أبواب غرفهم مفتوحة لنا ولأجهزتنا التي تصور كل ما يجذب أعيننا. عائلة السيدة "ونيش". الوالدة وابنتاها الاثنتان والحفيدتان. كن جميعا قلوبا مفتوحة لنا في فناء منزلهم دونما معرفة سابقة ودونما موعد. هذه ضيافة تونس العتيقة. منزلهم الممتد تاريخه لـ 650 عاما يبدو حديث الطابع لكنه لا يخفي أبجديات التاريخ في أي من جوانبه. سرداب في الأسفل، والمطبخ المفتوح إلى أعلى البناء ومكان البئر التي جف ماؤها، والجدران العريضة التي يتراوح سمكها بين 40 و60 سنتيمترا. "السقيفة"... تقول سهام ونيش: "هي مكان استقبال الضيوف. غرفة مفتوحة الأفق واسعة الطول. بها هندسيات متعددة وبها غرفة خاصة للتخزين وحفظ المواد الزائدة عن الحاجة. أيضا، السقوف العالية في الغرف ذات الشكل المستطيل في العادة حاضرة في المخيلة وإن سترت بأسقف حديثة، تزينها نقوش كتبت عليها بعض الآيات القرآنية، ناهيك عن تلك المنحوتات والمنمنمات الإسلامية". في غرفة الحاجة ونيش الكثير من الأدوات التاريخية وهي شديدة الاعتزاز بخزانتها. تقول: "عمر خزانتي هذه يزيد عن 350 عاما". أصرت الوالدة على أن نبقى لتناول بعض الحلويات الشعبية التي تقدم للضيوف في العادة. دارت أحاديث ودية بين الحاج الطيب والحاجة ونيش الذي يعرف زوجها المتوفى. كان الحديث مليئا بتاريخ هذه الأبنية وبأسماء كانت هنا، بعضها رحل وبعضها مازال ينبض فيها بالحياة. تجولت أرجلنا بكل غرف البيت العتيق وكانت ابتسامة الحاجة وأرواح أهل البيت التي تحيط بنا دلالة بان البيت العتيق بيتنا ولنا فيه ما لهم.

زيتون الشواشين...

في نهاية المدينة العتيقة، تبدو في السماء منارة جامع الزيتونة. أسسه عبدالله ابن الحبحاب سنة "114هـ/ 732م". هنا تتجلى أول جامعة إسلامية تدرس بها علوم التفسير والفقه وكل العلوم وبها مكتبة كبيرة نقلت كتبها حديثا إلى مكتبة تونس الوطنية. صوامع المتصوفة والأعمدة المتفرقة والأقواس الفارعة المنتشرة بكثافة وقراء القرآن الكريم كلها أطياف تحملك للماضي، هذا البناء لا يعرف الموت. أسواق الشواشين "صناع الطاقية التونسية" يتوزعون في ممرنا الأخير وهنا المقاهي التي تعج بالآلاف من المرتادين من كل الطبقات وما إن تخرج لتونس الحديثة من آخر بوابة حتى ترى شارع الحكومة والوزارة الأولى "ديوان رئاسة الوزراء" وكبريات وزارات الدولة بطابعها الحديث. هؤلاء التونسيون يصرون أن تبقى حواضرهم قريبة من تاريخهم التليد، لا يريدون أن تنفك أواصر الماضي. لهم منها عبق يستزيدون منه. فهل ينضب؟





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً