مفردها جزيرة وجمعها جزر وجزائر، وطني مملكة البحرين الحبيبة، كنا في الصف الخامس الابتدائي في بداية الستينات من القرن الماضي، مدرسنا لمادة الجغرافيا كان الأستاذ القدير يرحمه الله عبدالصاحب القيدوم، الذي توفي حسبما أتذكر في السنة الأولى أو الثانية من زواجه بالصعق الكهربائي. كان أستاذا محبا لمادته يمتلك قدرة كبيرة على توصيل المعلومة للطالب بكل يسر وسهولة، حريصا على ألا يكون شرح مادته نظريا على السبورة فقط، بل كان يلجأ إلى الوسائل العملية من الخرائط والمجسمات أو على الطبيعة مباشرة. كنا في مدرسة السلمانية، وكانت المدرسة قريبة من الحديقة المائية، وكان في الحديقة بحيرة مائية، وكان رحمه الله يأخذنا إلى تلك الحديقة والبحيرة التي كان يوجد فيها قطع من اليابسة يحيط بها الماء من جميع الجهات، كي يوضح لنا معنى الجزيرة ومعنى الأرخبيل ومعنى شبه الجزيرة. علمنا أن البحرين عبارة عن مجموعة من الجزر عددها 33 جزيرة، أكبرها جزيرة المنامة التي توجد بها العاصمة، ومنها جزيرة المحرق التي يربطها بالمنامة جسر الشيخ حمد. وقتها كان الكثيرون من المناطق الاخرى يسمعون بالمنامة والمحرق ولكنهم لم يروا أيا منهما، وكذلك هناك من سكان المنامة من يسمع بالجسر ويسمع بالمطار ويسمع بالمحرق، ولكن لم يشاهد من ذلك شيئا. بعض الطلبة الذين كانوا يشاركون في المظاهرات في تلك الأيام سنحت لهم الفرصة لعبور الجسر والانتقال إلى جزيرة المحرق. لا تستغربوا، ففي تلك الأيام كان حتى طلاب المرحلة الابتدائية يشاركون في المظاهرات المؤيدة للرئيس جمال عبدالناصر والوحدة الثلاثية والمستنكرة للسياسات الاستعمارية والصهيونية والمساندة للقضايا القومية. ولكم أن تتصورا مظاهرات سياسية ضخمة يشارك فيها بشكل أساسي طلاب المدرسة الثانوية بالمنامة ومدرسة الصناعة بحكم أنهم الأكبر سنا من بين الطلاب، إذ وقتها لم تكن هناك جامعات أو دراسات أعلى من المرحلة الثانوية، لذلك لم تكن أعمار المشاركين تتجاوز العشرين سنة في أحسن الأحوال. تصوروا أن أولئك الصبية ممن كان منهم في الصف الأول ثانوي أو في التوجيهي كانوا يعتقلون ويزج بهم في السجن من دون محاكمة وينقلون إلى جزيرة جدة ليقضوا فيها بعض سنوات صباهم، في الوقت الذي يحرم قانون الجمعيات السياسية العضوية على من لم يكمل الحادية والعشرين عاما! لذلك كنت من المحظوظين الذين عبروا جسر الشيخ حمد مشيا على الأقدام ووطأت قدمي جزيرة المحرق الحبيبة التي كانت ولا تزال منارة لنضال شعبنا، على رغم محاولات البعض الذين يستهوون تجزيء الوطن وتقسيمه، ستبقى المحرق كما كانت وكما هي رمزا مستمرا، جزيرة تمثل وحدة أبناء الوطن وتضامنهم. علمنا الأستاذ القيدوم رحمه الله أسماء جزر البحرين ومنها جزيرة أم الصبان وجزيرة أم النعسان وجزيرة جدة، كلها أسماء تمر علينا مرور الكرام، والكثير من المواطنين لو سألتهم ليذكروا لك أسماء خمس جزر من جزر البحرين سيعجزون عن الإجابة، لعدم وجود واقع عملي يربطهم بتلك الجزر، فربما سيكون هناك منع من زيارتها، أو انها أصبحت مملوكة لأشخاص مثلها مثل سواحل المملكة التي كنا نقصدها ونحن طلاب في رحلات مدرسية، إذ كانت الكثير من البساتين الجميلة محاذية لشاطئ البحر. لكن تبقى جدة جزيرة معروفة للأهالي كافة، فقد ارتبط اسمها بهم لكونها سجنا للمحكوم عليهم في القضايا الجنائية، ومعتقلا للسياسيين الذين مر معظمهم عليها. كيف لا يعرفها الأهالي وفيها قضى المناضلان المرحومان ابراهيم فخرو وابراهيم عبدالرحمن الموسى مدة الحكم الظالم الذي صدر بحقهما إثر الانتفاضة الشعبية العارمة التي قادتها هيئة الاتحاد الوطني، وقضى فيها من تبعهم من مناضلي شعبنا أحلى سنوات حياتهم وفي مقدمتهم المناضل مجيد مرهون الذي قضى فيها قرابة الربع قرن من عمره، والمناضل ابراهيم سند وآخرون كثيرون ممن أمضوا سنوات طويلة فيها برفقة الضابط الانجليزي سميث.
الذهاب إلى جدة
كنت من المحظوظين الذين وطأت أقدامهم أرض هذه الجزيرة، فبعد حملات التعذيب الشديدة التي تعرض لها الكثير من مناضلي الجبهة الشعبية وجبهة التحرير الوطني البحرانية، والتي استشهد نتيجتها المناضلان محمد غلوم بوجيري وسعيد العويناتي، تم عرضنا أولا على طبيب القلعة لإجراء الكشف الطبي، ومن ثم وضعنا في سيارة الشرطة برفقة ضابط السجن، الذي كان يقول لنا "سنأخذكم لفترة نقاهة". ولم نكن نعرف إلى أين نحن ذاهبون، عبرت بنا السيارة شارع البديع فعرفنا أننا متوجهون إلى جزيرة جدة. وصلنا إلى فرضة الشرطة في البديع، تلك القرية الساحلية الجميلة التي شهدت المحاكمة الجائرة بحق المناضلين من قادة هيئة الاتحاد الوطني الباكر والشملان والعليوات، وضعنا في اللنش التي توجهت بنا إلى الجزيرة. وصلناها والتقينا عن بعد بالأحبة من الرفاق المناضلين الذين سبقونا بسنوات. على رغم مرارة الاعتقال وآثار التعذيب الجسدية والنفسية التي كانت تفوق الجسدية. كانت الفرحة عارمة بهذا اللقاء. وضعنا في مبنى كان يعرف ببيت الدولة كما أتذكر. لم نكن نحن من تم اعتقالهم في الحملة التي عرفت بحملة المدني لتعلقها باغتيال المرحوم الشهيد عبدالله المدني. فأل خير على رفاقنا وعلى سجناء جدة قاطبة سواء السياسيين أو الجنائيين. في نهاية السبيعنات انتاب سيء الصيت هندرسون الحسد فقرر الاستغناء عن تلك الجزيرة التي ربما يجد فيها السجين أو المعتقل بعض المتعة التي قد تنسيه مؤقتا متاعب الاعتقال والسجن، وقرر سيء الصيت إنشاء سجن جو. وقبل اكتمال هذا السجن وإمعانا من هندرسون في إرهابه وحنقه وكرهه لهذا الشعب قرر أن يقوم بنقل المعتقلين السياسيين إلى معسكر سافرة لتدريب الشرطة، وبعد أيام معدودات لم تكن كافية لفترة النقاهة التي وعدنا بها ضابط السجن عند نقلنا إلى جزيرة جدة، تم وضعنا في رحلة إياب لم نكن نعرف أين هي وجهتنا. كنا ستة عشر معتقلا، وصلنا إلى اليابسة وكانت بانتظارنا شاحنة كبيرة تم تحويلها إلى سجن متنقل، إذ كانت مصممة على شكل زنازن انفرادية بالكاد تكفي لوقوف معتقل واحد فقط شريطة أن يكون حجمه معقولا، وإلا سيتم حشره حشرا.
العودة إلى الزنزانة
نقلنا من جزيرة جدة إلى الجزيرة الأم، في منطقة سافرة وبالضبط في معسكر تدريب فرق مكافحة الشغب، ذلك المعسكر يقيم فيه المئات من إخوتنا من جنسيات عربية وآسيوية مختلفة، بالتأكيد الآن أصبح معظمهم مواطنين بفضل سياسة التجنيس المرسومة بدقة وقصد. وصلنا إلى المعسكر ونقلنا إلى جزيرة صحراوية في داخل المعسكر، شيدت فيها ثمانين صنادق خشبية لا تقي من حر الصيف ولا من برد الشتاء. مساحة كل واحدة منها بالكاد تعادل أربعة أمتار مربعة، توجد في سقفها فتحة صغيرة. ومهما عمل السجانون فالمعتقل ليس معدوم الحيلة، فمن تلك الفتحة الصغيرة استطعنا أن نرى رفاقنا الذين سبقونا إلى ذلك المعتقل وكانوا محتجزين في مبنى قديم في ذلك المعسكر، وكانوا يخرجون عند الصباح وفي الظهر إلى الحمام برفقة السجان ويد كل منهم مقفلة بـ "الهفكري" مع السجان. الجميل أن السجانين لم يكونوا بالسوء، بل بعد فترة تعرفوا علينا وربما بعضهم كان منتميا إلى حركات نضالية في بلده، فمن هو من اليمن الشقيق كان مع فكر عبدالناصر ومع ثورة سبتمبر المجيدة، وربما كان بعضهم من رفاق عبدالفتاح اسماعيل وسالم ربيع علي، وآخرون مع الحركات الوطنية في بلوشستان، لذلك وجدنا منهم تعاطفا كبيرا وأحيانا مساعدات فعلية. مرت السنوات بحلوها ومرها، وذهب هندرسون وتم تبييض السجون والمعتقلات من أصحاب الرأي ومن محبي الوطن، وأصبح الماضي من الذكريات بكل دروسه وعبره. كنت من المحظوظين الذين وطأوا أرض جدة. نتمنى أن تتحول هذه الجزيرة إلى منتجع سياحي، يحق لكل مواطن زيارتها لأنها جزء من وطنه، وفي جعلها منتجعا سياحيا ستكون بالتأكيد مكانا لإنشاء الفنادق وإقامة المشروعات السياحية الجاذبة التي تسهم في بناء اقتصاد وطني، بعيدا عن إنشاء فنادق وسط التجمعات السكنية، وفي ظل رفض المواطنين وجود تلك الفنادق في مناطق سكناهم... ورحم الله أستاذي عبدالصاحب القيدوم الذي عرفنا بالجزيرة قبل ذهابنا إليها. * كاتب بحريني
العدد 1139 - الثلثاء 18 أكتوبر 2005م الموافق 15 رمضان 1426هـ