استثارت حزمة الأسئلة الحرجة المحرجة، التي طرحناها في مقال الأسبوع الماضي بشأن مهمة الجامعة العربية في العراق، الأمين العام للجامعة عمرو موسى، كما هو متوقع لأسباب متنوعة بعضها يتعلق بطبيعة المهمة الموكلة له ودور العرب "المتأخر" في العراق المذبوح، وبعضها الآخر يتعلق بشخصية الرجل وتكوينه المتحدي. وأزعم أني أعرف جوانب كثيرة من شخصية عمرو موسى، بحكم العلاقة الوثيقة بينه وبيني، تلك الممتدة عبر أكثر من ربع قرن، لم تشبها لحسن الحظ أي مطالب أو مصالح، ولم تعكرها أي خلافات أساسية، على رغم الاختلاف في الآراء والتقييمات في بعض الشئون السياسية. وبحكم شخصيته الديناميكية عميقة التفكير سريعة الحركة قوية الاستيعاب، شديدة التحدي، تحدي المواقف والقبول بالمخاطر، كان لابد أن نلتقي في حوار خاص، بشأن ما أثرته في الأسبوع الماضي وهو الأمر الذي حدث، قبل ساعات من سفره من دون مقاطعة من الهواتف ولا من الزوار الضيوف، ولا حتى من مساعديه وسكرتاريته، الأمر الذي ساعد على تهيئة مناخ أفضل ومساحة أوسع للحوار، وقد بدأ الرجل باصرار على اتمام الزيارة وإكمال المهمة في بغداد، على رغم المخاطر الأمنية والتهديدات التي وصلته، والرجاءات التي طاردته حتى لا يزور العراق في هذه الظروف المضطربة. أكثر ما اهتم به كان توضيح السبب في القيام بهذه المهمة التي نرى أنها تأخرت كثيرا، مؤكدا أن الظروف التي يمر بها العراق الآن، لم تعد تسمح بأن يظل العرب خارج دائرة الفعل والتأثير، وإلا ضاع بلد عربي نهائيا، ومهمته إلى بغداد ليست هدفا في حد ذاته، لكنها بداية لعملية سياسية طويلة، تهدف إلى إعادة العراق والعراقيين إلى الطريق الصحيح حفظا للوطن، طريق المصالحة الوطنية، وهو التعبير الذي تعترض عليه بعض الطوائف العراقية ولذلك اتفق على تعبير آخر هو الوفاق الوطني، المقرر عقد مؤتمر له تحت رعاية الجامعة العربية تحضره كل الأطياف بلا عزل أو أي استبعاد أو تهميش. لكن لماذا الآن، ولماذا تأخرتم طويلا، ثم تحركتم الآن، هل بسبب الضغط الأميركي مثلا... يقول ربما نقبل العتاب لأن الدور العربي تأخر بعض الشيء، ولكن أيهما أفضل، أن نستمر في التأخر والغياب. أم نتقدم ونبادر ونلحق بالفرصة السانحة، نعم الفرصة الآن سانحة، أميركا مأزومة وكل الأطراف العراقية كذلك، والجميع أصبح مقتنعا بل مطالبا بدور للجامعة العربية في العراق. فهل نرفضه لمجرد أن أميركا توافق عليه أو ترحب به! مهمتنا في العراق، يحدث عمرو موسى، الالتقاء بجميع الأطراف العراقية المتآلفة والمتحالفة والرافضة المعارضة، نبحث معهم عن خيط يعيد الوفاق بينهم حتى لا يضيع العراق نهائيا، ولا ننسى أن هناك مسارين مهمين يجريان الآن، مسار العملية السياسية، سواء الاستفتاء على الدستور أو ما يتبعه من خطوات بما في ذلك انهاء الاحتلال الأجنبي وفق قرار مجلس الأمن، ثم المسار الثاني وهو الاختلاف والانشقاق الطائفي والعرقي والسياسي الذي يسود أهل العراق، والذي إن تركناه سيؤدي حتما إلى التقسيم، كلا المسارين يجريان في تناقض، وأظن أن من أهم واجباتنا وقف التناقض الآن قبل الغد... لكن هناك اطراف عراقية بل وعربية ودولية واقليمية، مازالت ترفض أي دور للعرب ولجامعتهم في رسم خريطة العراق الجديد... يجيب نعم أوافق، فاللعب من وراء ستار أصبح واضحا لكنه مفضوح، من بث الشائعات والأخبار الكاذبة "على غرار أن موسى طلب مقابلة صدام حسين في سجنه"، إلى الدعايات الرخيصة، إلى التشكيك المباشر في هدف ومهمة الأمين العام للجامعة العربية في بغداد... أمام هذه الهجمة الشرسة هل نتراجع عن قرار استراتيجي اتخذته لجنة المتابعة العربية في اجتماع جدة، بالذهاب مباشرة إلى الساحة العراقية، أم نمضي إلى الأمام... لقد قررت المضي في المهمة على رغم كل المخاطر والتحذيرات، خصوصا بعد الاستنتاجات التي توصل اليها وفد الجامعة الذي عاد من بغداد قبل أيام، وخلاصتها أن الترحيب بزيارة الأمين العام واضح من جميع الأطراف الرئيسية بما فيها الأكراد، واتصالاتي المباشرة لم تنقطع طوال الأيام والأسابيع بهم جمعيا لنحقق الهدف المنشود. قلت، على أي أساس تخوض باسم الجامعة العربية في مهمة غامضة، وما هي ضمانات النجاح وما هي الأوراق التي في يديك... أجاب بروح وعقلية المغامر المتحدي، أخوض التجربة التي لابد من خوضها، ولن تكون الأولى والأخيرة ولكنها بداية لمحاولة تصحيح الأوضاع وتعويض الغياب أو التأخير وإعادة تجميع أطياف الشعب العراقي المنقسمة والمتصارعة، فإن نجحت فهو نجاح للعرب وللعراقيين جميعا، وإن وضعت أمامي العراقي سواء من بعض العراقيين أو غيرهم، سأعود وأعلن الأسباب واكشفها للجميع بلا مداراة، فانا احمل مبادرة عربية للمصالحة أو الوفاق الوطني، ولا اذهب بصفتي الشخصية، وادرك معنى المخاطرة السياسية والشخصية في هذا كله، لكن الفشل لا قدر الله لا يجب أن يكون نهاية المطاف، بل يستدعي من الجميع بذل جهد أكبر واصدق ومثابرة أدق. لست معك - يضيف موسى خلال الحوار الذي امتد لنحو الساعتين - في أن التحرك العربي جاء أخيرا بضغط أميركي، أو حتى بضوء اخضر، ولست مع المطالبين بأن نرفض الحوار بشكل مطلق مع أميركا، فهي اللاعب الأعظم في الساحة الدولية عموما والعراقية بل والعربية خصوصا، نعم أميركا تعاني مشكلة عويصة في العراق، وربما كانت ترفض أي دور عربي أو حتى من دول الجوار الأخرى، لكنها الآن عدلت سياستها ورحبت بالمبادرة العربية وكذلك فعلت الأطراف العراقية الأساسية، التي تحاورنا معها طويلا على سبيل المثال عن مواد الدستور منذ أسابيع، وتحديدا عن صيغة هوية العراق، وتوصلنا إلى حل وسط هو الذي طرح فعلا في الدستور، وهو أن العراق عضو مؤسس وفاعل في الجامعة العربية يلتزم بميثاقها وقراراتها... لم نكن غائبين بالمرة كما يقول البعض إذا. الشكوك التي ذكرتها عن دور ناشط لدول الجوار خصوصا إيران وتركيا و"إسرائيل" وغيرها، صحيحة يقول الأمين العام للجامعة، وعلينا مواجهة مخاطرها بالحضور وليس باستمرار الغياب، بالحوار معها كما مع دول الاحتلال حتى نجد مخرجا لشعب العراق فيعود حرا متمسكا بوحدته، وحبال الحوار ممتدة خصوصا مع إيران "المتهمة بلعب الدور الأكبر في مساندة وتحريض الشيعة" لقد قابلت الرئيس الإيراني أحمدي نجاد، وناقشت الأمر معه ضمن أمور أخرى، واعتقد أن من صالح العرب تعميق وتوثيق الحوار مع الجارة المسلمة إيران ذات الامكانات الكبيرة والتأثير الواسع والدبلوماسية المحددة الأهداف... وفي القريب العاجل سأوزر إيران لاستكمال المهمة، مهمة الحوار وتوثيق العلاقات التي تخدم الأهداف المشتركة سواء في ازمة العراق، أو أي أزمات أخرى، مثل الجزر الاماراتية الثلاث المتنازع عليها الآن. قلت له حسنا... بعد ساعات أو أيام قلائل، ستكون في العراق، ما هي ورقة العمل التي تحملها للأطراف العراقية المتصارعة، فأنت لا تذهب في زيارة بروتوكولية... ولكن في مهمة مصالحة وطنية صعبة. قال الرجل بوضوحه المعروف لي ولغيري، لا احمل ورقة عمل محددة، لكني احمل اطارا محددا قوامه المبادرة العربية، والرغبة الصادقة في استنقاذ العراق مما يعانيه من مخاطر الصراع والتقسيم. وهي مخاطر جسيمة عليه وعلى جميع الدول العربية، أسعى لأن استمع لآراء الجميع واستوضح مواقفهم ومطالبهم وشروطهم، حتى نضع الأساس السليم لمؤتمر المصالحة أو الوفاق الوطني، الذي أتصور ضرورة انعقاده قبل يناير/ كانون الثاني المقبل، الذي ينتهي فيه تفويض مجلس الأمن لقوات الاحتلال التي يجب أن تنسحب، وما العيب في أن نساعد على تخليص العراق من قوات الاحتلال بتسهيل انسحابها منه الآن قبل الغد! قلت وهل الوضع العربي عموما يساعد بصدق، وبكل ما يعانيه من معضلات وعراقيل، في نجاحك، سواء في العراق أو غيره من الازمات! اكتسى وجهه بعلامات الحزن، وعبر عنه قائلا، الوضع العربي لا يسر كثيرا، ولقد عانيت كثيرا خلال وجودي في الشهر الماضي في نيويورك، خصوصا من منظر بعض المسئولين وهم يتسللون إلى غرفة وزير خارجية "إسرائيل"، وكأنني لا أراهم، إن "إسرائيل" هي التي تلح وتسعى إلى تطبيع علاقاتها مع العرب، فلماذا يهرول إليها بعض العرب سرا ليعدوها بالمكافأة، بينما هي لم تدفع الثمن الحقيقي، فمازالت القضية الفلسطينية معقدة لا تجد حلا جذريا. قلت هل أصابك اليأس، قال ربما، قلت إذا هل صحيح انك تنوى الاعتزال من منصبك الرفيع في القمة العربية المقبلة بالخرطوم في مارس/ آذار المقبل، أجاب بحسم، إذا استمرت الأوضاع العربية على حالها، واستمرت محاولات عرقلة أداء الجامعة العربية، فسأعلن صراحة عدم تحملي هذه المسئولية... ساعتها أفضل أن أبقى مثلك، أسير في الشارع حرا بلا قيود كما تفعل أنت! ثم... اتفقنا على مواصلة الحوار، بعد عودته سالما بإذن الله من زيارة العراق، لعل الصورة تكون أكثر وضوحا وشفافية، لنكرر طرح الأسئلة الحرجة المحرجة في حوار آخر لا تنقصه نفس الشفافية والصراحة التي تعودناها سويا على مدى الأيام والسنين، متراوحا بين الاتفاق والاختلاف!
خير الكلام
قال تعالى: "وكان الانسان أكثر شيء جدلا" "الكهف: 54". * مدير تحرير صحيفة "الاهرام
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1139 - الثلثاء 18 أكتوبر 2005م الموافق 15 رمضان 1426هـ