العدد 2428 - الأربعاء 29 أبريل 2009م الموافق 04 جمادى الأولى 1430هـ

الجمال قائم على الذات لا على المرآة

الناقد المغربي نور الدين أفاية في بيت الزايد

ضمن البرنامج الثقافي لمركز الشيخ إبراهيم للدراسات والبحوث استضاف المركز الناقد المغربي نور الدين أفاية في بيت عبد الزايد لتراث البحرين الصحفي حيث تحدّث عن الأسس الثقافية للجماليات وأهم التحولات السياسية والاجتماعية التي صنعت فيما بعد أبعادا ثقافية أسست للجماليات القائمة على الامتدادات البصرية والنزعة الذاتية منذ تلك اللحظة التاريخية التي مازلنا نعيش أثرها حتى الآن.

في البداية أشار نور الدين إلى العوامل التي شكلت الوعي الجديد لأوربا، والتطورات الكثيرة في أواخر القرن الخامس عشر، والتي تمثلت في انتصار المسيحيين على المسلمين في الأندلس واكتشاف المطبعة، واكتشاف أميركا عن طريق البحر والمصادفة حيث تزامنت هذه الأحداث مع استعادة الأوربيين لعناصر القوة مما ساعدهم على إخراج المسلمين من أوربا وبعد خمسة قرون من الحروب والمواجهات الداخلية التي شكلت الوجدان المسيحي، وبعد قرون من التحدي استطاعت أوربا أن تعبر عن ذاتها مما ساعد على ظهور هوية أوربية مؤكدا على أن تلك الأحداث هي التدشين الفعلي للحضارة الأوروبية.

وأكد نور الدين على دور المطبعة في صنع المرحلة الجديدة ففي حينها كان اكتشاف المطبعة أمر يضاهي كل وسائل التعبير، فالمطبعة لم تكن فقط عاملا في انتشار المسيحية ونسخ الآلاف والملايين من الكتب، بل كانت إيذانا بمرحلة جديدة والإسهام في ثقافة البصرية التي ستشكل لب الأسس الجمالية فيما بعد.

واستطرد نور الدين «إن أي اكتشاف له امتدادات نفسية، فاكتشاف الدراجة اكتشاف بشري للتعويض عن نقص في الحركة، وهو اكتشاف يعبر عن التحرر من سلطة المكان، وكذلك التلسكوب اكتشاف بشري للتعويض عن نقص في النظر، وخلص إلى أن كل الاكتشافات البشرية هي تعويض عن نقص.

وبين نور الدين بأن تشابك ما هو ديني بما هو تقني بما هو سياسي بما هو فني قد كشف عن وعي تأسيسي لأوروبا بذاتها، وكل تلك العوامل شكلت القواعد التأسيسية لوعي جديد لأوروبا بذاتها فقد حدثت تطورات كبيرة في أواخر القرن الخامس عشر تمثلت في حدثين اثنين متظافرين، الأول اكتشاف العالم الجديد 1562 وانتصار المسيحيين المسلمين في الأندلس، واستعادة الأوربيين لعناصر القوة ساعدتهم في تشكيل الهوية الأوروبية مستدركا «ولا يمكن حصر ما جرى في اعتبارات عسكرية فقد ساهمت كل تلك الأحداث في تشكيل الوجدان المسيحي بعد قرون من التحدي الحضاري.

وأكد نور الدين على أن عهد الإصلاح الديني في أوروبا أيضا يمثل لحظة حاسمة في التاريخ «والذي انتهى إلى مقولة أن ما لله لله وما لقيصر لقيصر» وما مظاهر الاحتقان الديني العنيف إلا تعبير عن تاريخ الاقتتال اللاموصوف خالصا إلى أن «أوروبا بنت ديمقراطيتها على الدم، حيث سقط في تلك المعارك مئات الآلاف من الناس، وما فصل الدين عن الدولة إلا الخيار الأخير الذي لجأت إليه أوروبا لكي توقف عملية الاحتراب ولم تكن العلمانية اختيارا سهلا بل كانت نتيجة ثلاثة قرون من الاقتتال من الدم، والصراع الديني المحتدم.

وأضاف نور الدين كل هذه التحولات كان لها أثرها ومما لا شك أن المنجى الفني الذي تم التعبير عنه في الأعمال التشكيلية والمعمارية كثف رؤية جديدة للعالم بالإضافة إلى «التوقيع الفني» الذي كان بمثابة إعلان عن الظهور العلني للعمل الفني، إذ لم يعد الفنان هو لسان الحال للمؤسسة الكنسية أو غيرها بل انتقل إلى ذات مستقلة تجرؤ على التباهي والإعلان عن النفس، فبعد أن كنا نشاهد لوحات بدون توقيع بدأنا بعد القرن السابع عشر نشاهد لوحات بتوقيع، أي أن الفنان المبدع خرج من الحال السابقة وأصبح يتبنى عمله، وإن هذا التحول الكبير سيجد صياغته الفلسفية والفكرية في القرن السابع عشر خصوصا بعد الانفتاح الكبير والهائل مع كوجيتو ديكارت أنا أفكر إذن أنا موجود وهنا برز التأكيد على الأنا. «فليس أولا الفكر ولا الوجود أولا» وإنما الأنا كتأسيس للذاتية والتقاطع مع ما سبق، وخلص إلى أن هذا التأسيس الفلسفي للأنا هو تأسيس للقيم انطلاقا من الذات. هذه الشروط والعوامل وإن اتخذت أبعادا تاريخية أو دينية أو سياسية إلا أنها نهلت من صيرورات ثقافية تظافرت مع الرؤى التشكيلية وكأن الأمر يتعلق بمختبر تاريخي انبثق عن مباحث جديدة منها الجماليات والتي هي مجموع طرق التفكير والشعور في ارتباطاتها المتعددة بالطبيعة والإنسان والمطلق وهي وبؤرة التداول والتجربة والوعي بالذات.

وأضاف نور الدين هكذا حينما أخرج من منطقة الجهل إلى منطقة المعرفة تحضر الثقافة التي هي أوسع من المعرفة وتظهر مفردتي الثقة والاعتراف، الثقة التي هي أساس الحداثة، وكذلك الديمقراطية التي أساسها الثقة فليست الديمقراطية سوى تعبير عن الثقة السياسية، وكذلك التجارة أساسها الثقة وما حصول الأزمة المالية التي يعيشها العالم اليوم الإ بسبب عدم وجود الثقة. وتابع والمبدأ هو الآخر الاعتراف فالكل يتصارع على الاعتراف الذي هو محور الصراع في تاريخ البشر وهو الآلية المنتجة للرموز.

وأكد على مفاهيم فلسفية أساسية في فهم الحداثة تتموضع في نقطة ارتكاز سماها « ثلاثية القوة» وهي الرغبة والسلطة واللغة، إذ تعبر الرغبة في حركتها السلبية عن النقص في الوجود، أنا أرغب فإنني محتاج، وكذلك الأمر بالنسبة إلى الحاجة للاعتراف، وهو رغبة في رغبة الآخر، أما السلطة فهي الجدل من أجل التملك، وهي وسيلة لفرض الاعتراف على الآخر أنا أمتلك فأنا أفرض اعترافا، في حين أن اللغة هي التي تعبر عن مقاصد الذات والسلطة، وخلص إلى أن هذه الثقافة هي التي أسست للشروط العملية الجماليات الحديثة.

وأضاف لا يمكن فهم تاريخ الحداثة بالاقتصار على تراجع وتقهقر التقليد عن مواكبة الأوجه المختلفة لتجليات الذات، مع صعوبة الإحاطة بأسئلة الإبداع، وتحول العمل الفني من التساؤل عن القيمة إلى التساؤل عن الفردانية، ومن الانسجام مع الخارج إلى الانسجام الداخلي للعمل ففي الوقت الذي كان القدماء والمحافظون ينظرون للعمل الفني كانعكاس للخارج أصبح المحدثون ينظرون إليه بمدى انسجامه الداخلي فلم يعد العمل الفني انعكاسا للعالم، وبذلك انتهت نظرية المرآة، هكذا لم يعد هناك عالم أحادي فالعمل الجيد هو ما يخلق المتعة وأصبح كل فنان يقترح علينا عالما خاصا به هكذا تم «تذويت العالم» انطلاقا من كل ذات وماذا يعني لها العالم، ومن التراوح بين مفهوم الذات والجماعة تم تأكيد مفهوم الشعب الذي كان يختزل ثقافيا في الهمج والرعاع والغوغاء والعامة إلى أن أصبح الشعب صيغة دالة وكيانا قادرا على التعبير عن ذاته حيث أصبح من الممكن حل إشكالية مشروعية السلطة جماعيا، مع إمكانية تأسيس ما هو جماعي مقابل إرادات فردية، مع تحول جذري في أنماط التمثل واستحضار الجميل وصار يفكر في الجميل في إطار الذوق وهنا ظهرت أسئلة أخرى كيف يمكن تأسيس موضوعية اعتمادا على تمثّلات الذات كيف يمكن الوصول للموضوعي مادامت الذات مشتغلة، فظهر مفهوم لاعقلانية الجميل وإعادة النظر علي هذا الأساس، كيف من الممكن أن نناقش الجميل، هل تصل الذاتية للإجماع، مع بروز ظاهرة النقد كإجراء فكري حازم فالنقد الذي لا يخلخل الآخر يفتقد جدارته، فهو الذي يخلق التواصل والتداول، وحتى الحداثة الأوروبية لا يمكن أن تستقيم دون نقدها ومساءلتها، خلص مؤكدا على أهمية التساؤل فالثقافات الحية هي التي لا تنزعج من السؤال، وأكد على أن الإنتاج الفكري في العالم العربي مازال يعكس المحافظة، في حين أن الثقافة التي لا تقوم على السؤال والمبادرة والمغامرة والإنتاج تولد كائنات مخصية، وتكذب على نفسها ولا تعبر عن ذاتها حتى أصبح الكذب أكبر مؤسسة في العالم العربي، ويكفي أن نراه أحيانا وسيلة للتحرر عند المرأة في حين أن الرجل غير مستعد لتحمّل حقيقتها.

وأحب أفاية أن يختم محاضرته بنص شعري لأحد الكبار كما أسماه الشاعر محمود درويش إذ يقول في كلمات الإبداع هسيس الكلمة في اللامرئي التي من فرط ما هي سرية يعتقد كل منا أنه هو كاتبها، يراعة في ليل الأجناس، هي ما يجعل الشعرية ممكنة حيث أضاءت له طريق المعنى في غبش الكلمات.

العدد 2428 - الأربعاء 29 أبريل 2009م الموافق 04 جمادى الأولى 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً