كثيرا ما أكد السوريون في الاعوام الاخيرة رفض العنف سواء في علاقاتهم الداخلية أو في علاقتهم مع القضايا الاقليمية والدولية، وهو تأكيد لا يستمد قوته من توازيه مع الحرب الدائرة على الارهاب بقدر ما يرتبط بالتجربة المرة التي عاشها السوريون في عقدي السبعينات والثمانينات حين طحن الشعب السوري بين رحى عنف السلطات من جهة وعنف الجماعات الاسلامية المسلحة، والتي لم يترتب عليها خسائر بشرية ومادية كبيرة وحسب، بل تداعيات سياسية واجتماعية عانى السوريون - وما يزالون - منها على رغم مرور كل هذا الوقت الطويل والمرير. وزاد الى هذا الوضع في أسباب رفض السوريين للعنف، رؤية السوريين لما يحدث في محيطهم الاقليمي وخصوصا في العراق وفلسطين ولبنان وتركيا من اعمال عنف، لا يقوم بها جنود محتلون وغاشمون فقط، بل قتلة وأعضاء في جماعات متطرفة، جعلت من القتل والدمار طريقا في تعاملها مع المحيط، فأخذت تكمل مسيرة الجنود من القتلة في اشاعة القتل والدمار لإحكام السيطرة في اطار الحرب على الارهاب، كما هو معلن، أو طريقا للحفاظ على الارهاب واستمراره بحسب ما يؤكده الواقع سواء في العراق أو في فلسطين. وتعبيرات السوريين عن رفض الارهاب، تبدو شديدة الوضوح في مواقف الجماعات السياسية والمدنية، التي أكدت طوال الأعوام الخمسة الماضية من حراكها السياسي والاجتماعي والثقافي على تبني العمل السلمي والحوار والتوافق، وكلها تؤكد رفض العنف سبيلا في الحياة العامة. وقد ترسخ ذلك في معظم الادبيات التي صدرت، كما في مقالات وتصريحات الناشطين السوريين في ميدان العمل العام، بل ان الامر تجاوز ذلك الى المواقف العملية التي اتخذها الحراك السوري في الموقف من السياستين الاميركية والاسرائيلية، إذ إن رفض تلك السياسات سببه قيامها على العنف، وارتبطت غالبية التظاهرات التي نظمت، والبيانات التي صدرت عن الحراك السوري في ادانة عنف الاميركيين والاسرائيليين المتصاعد، كما في موضوع الحرب على العراق وحملات التدمير الاسرائيلي ضد الفلسطينيين على نحو ما حدث في جنين ورام الله وغزة. وذهبت جماعة الاخوان المسلمين، التي تشكل ركنا مهما من المعارضة السورية في الخارج الى تبني سياسة رفض العنف، بما يعنيه ذلك من تحول سيطر على الجماعة في سنوات الصراع الدموي مع السلطة، وكان الاساس في هذا التحول، تقييم الجماعة للتجربة السابقة والمريرة، وتبني الحراك السوري رفض العنف، ما دفع الجماعة إلى إعلان التوجه للعمل العلني والسلمي، طبقا لما أكدته وثائق الجماعة وتصريحات قادتها في تحديد نهج وسياسات الاخوان السوريين في الاعوام الثلاثة الاخيرة. لقد عكس ذلك توافقا سوريا، تشاركت فيه عناصر الحراك في الداخل والخارج، وتعزز ذلك بثمار افرزته سلمية هذا الحراك، وادت الى تخفيف عنف السلطات في التعامل مع الحراك السوري، إذ كانت ردات فعل السلطات الأمنية حيال التظاهرات والاعتصامات والنشاطات الثقافية والسياسية، أقل بكثير مما كان عليه الحال في العقود السابقة من سلطة البعث، إذ كادت تتلاشى حالات الاعتداء على المعارضين في الشارع، كما حصل تراجع في حالات تعذيب المعتقلين، بل وفي أعداد الذين يجري اعتقالهم لاسباب تتعلق بالحراك السياسي والاجتماعي والثقافي. غير ان التحسن النسبي في موقف السلطات في تخفيف العنف حيال المعارضين، أخذ يتبدل في العام الاخير، واندفعت السلطات السورية في تغيير سلوكياتها في اتجاهين اولهما تشجيع فئات مؤيدة لها في ممارسة العنف ضد الحراك السياسي على نحو ما حدث في الاعتصام بمناسبة ذكرى اعلان الطوارئ في 11 مارس/ آذار ،2005 عندما دفعت طلابا للتحرش بالمعتصمين أمام القصر العدلي وسط دمشق والاعتداء عليهم؛ اما الاتجاه الثاني فقد ظهر في اطلاق يد الأمن مجددا في التعاطي مع الحراك العام لمنع عقد الاجتماعات واللقاءات الثقافية، واعتقال نشطاء وصولا الى استخدام السلاح بصورة واسعة في مواجهة عناصر مسلحة اختلطت هوياتهم ما بين المنتمين الى عصابات السلب والقتل وجماعات المهربين مع عناصر وصفتها السلطات بانها "ارهابية"، أبرزها ما سمي بـ "جند الشام" الذين جرى قتل كثير منهم في دمشق وحماه ومناطق أخرى. وكان من نتائج هذا التحول الرسمي في الموقف من العنف، ان استعادت سورية بعضا من أجواء الثمانينات، التي ساد اعتقاد انها صارت من الماضي، وان البلاد لا يمكن أن تعود إليها بعد التجربة المرة التي خلفتها، وحفرت آثارها في بنية السلطة وروح المجتمع السوري. والحديث عن موقف السوريين من العنف، لابد أن يستدعي الوقوف عند تفصيل طرأ في الأشهر الاخيرة، يتصل بموقف جماعات من المعارضة في الخارج، بما فيها جماعات معارضة ولدت على ارضية الموقف الاميركي من النظام ومستقبله في سورية، وقد بدا موقف بعضها مؤيدا للسياسة الاميركية، التي يمكن ان تبلغ حد التدخل العسكري على نحو ما حدث في العراق عندما سعت واشنطن وحلفاؤها الى اسقاط نظام صدام حسين، غير أن موقف هذه الجماعات شهد تبدلا ما في الفترة الاخيرة، لجهة اعلان رفضها التدخلات الخارجية في سورية، وهو ما يعني بصورة واضحة، رفض ما يمكن أن يرافق هذه التدخلات من عنف دموي مدمر طبقا لما حصل في أفغانستان والعراق، ولاشك ان هذا التبدل مرتبط ومتلازم مع موقف معارضة العنف الذي اتخذه الحراك السياسي في سورية والخارج. لقد أثبت طريق العنف فشله في الحياة السورية منذ استقلال البلاد، ولم يستطع الانقلابيون، ولا دعاة العنف المسلح، ولاسياسات العنف السلطوية، إيجاد حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية والاقتصادية، التي عانت منها البلاد، بل ان كل ما فعله العنفيون والسياسات العنيفة، انها فاقمت تلك المشكلات، وجعلت المجتمع والدولة يدفعان فواتير باهظة لما جرى. ويقف السوريون اليوم ودولتهم أمام تحدياتها واستحقاقاتها، التي لم يعد بالامكان تأجيلها أبدا، ما يفرض وقوفا سوريا شاملا ضد العنف وثقافته
العدد 1137 - الأحد 16 أكتوبر 2005م الموافق 13 رمضان 1426هـ