عاد الرئيس جورج بوش إلى سياسة التصعيد والتهديد والابتزاز بعد سكوت اتسم ببعض "العقلانية" لفترة قصيرة يبدو أنه كان يدرس خلالها أفضل خياراته. والظاهر انه توصل إلى تحديد أهدافه والوسائل التي يجب اتباعها لتنفيذها أو تمريرها. السكوت إذا لم يكن بداية مراجعة أو إعادة قراءة نقدية للسياسة السابقة المتهورة والمجنونة وانما كانت مجرد محطة للتفكير بمستقبل تلك السياسة وكيف يمكن إدارتها مجددا وسط متغيرات دولية واقليمية. الخطوط العريضة للافكار التي اطلقها بوش حديثا تشير إلى نوع من الجاهزية لاستعادة ذاك الخطاب المجنون الذي سيطر على إدارة "البيت الأبيض" في السنوات الماضية. فالكلام الذي قاله امام "المعهد" الديمقراطي كرره ثانية في خطاب متلفز شرح فيه سياسته للبحرية الاميركية، مؤكدا عدم تراجعه عن خطواته السابقة، مشيرا إلى أن واشنطن لن تقبل بأقل "من الانتصار". هذا الكلام التخويفي جاء ردا على دعوات تطالبه بسحب قواته من العراق ووقف سياسة التورط التي ساقت واشنطن إلى مواجهات كان بامكانها الاستغناء عنها أو الالتفاف حولها أو على الأقل اتباع وسائل أخرى "دبلوماسية" تعطيه بالضغط اكثر ما يتوخاه من استخدام القوة. مثل هذا الكلام المستعاد لم يلق التجاوب أو الترحيب من أي طرف دولي يحترم قوة الدبلوماسية. فالكل تردد في تقبل سياسة دبلوماسية القوة باستثناء الحليف الاستراتيجي الاقليمي والمستفيد الرئيسي من تهور واشنطن وعبثها في استقرار المنطقة وتوازنها. "إسرائيل" هي الطرف الوحيد الذي رحب بعودة "عقيدة بوش" كما اطلقت عليها الصحف الاسرائيلية، معتبرة أن هذا التحول/ العودة يجدد نشاط الاستراتيجية الاميركية في "الشرق الأوسط الكبير". ولم تتأخر تل أبيب في تعيين المهمات الجديدة لواشنطن وحددت لها طبعا أهم هدفين وهما إيران وسورية. "إسرائيل" كما يبدو تدرك أن عودة بوش إلى "عقيدة الجنون" تعزز دورها في المنطقة وتعطيها المزيد من الفرص للاستفادة من سياسة إضعاف دول "الشرق الأوسط" وبعثرتها واستنزافها وتهديد امنها وربما زعزعة استقرارها وتفكيكها واقعيا كما هو حاصل الآن في العراق. العراق هو النموذج الذي تطمح إليه "إسرائيل" وتدفع باتجاه تعميمه في دول الجوار. فهي تريد فعلا تصدير "الفوضى البناءة" إلى إيران وسورية وفي خطوة لاحقة السعودية. فهذه الاهداف تراهن تل أبيب على قوة أميركا العسكرية لتنفيذها نيابة عنها. وهذا كما يبدو فهمته الصحف الاسرائيلية من خطاب بوش الأخير. فالرئيس كما ذكر المعلقون الاسرائيليون عاد أخيرا إلى "عقيدته". وهذه العقيدة المجنونة هي بالضبط ما تريدها تل أبيب من واشنطن لأنها الوحيدة التي تحقق اغراضها بالواسطة ومن طريق قوة دولية كبرى تهابها حتى تلك الدول التي تعتبر نفسها منافسة لها. عاد بوش إذا إلى "عقيدته" كما تقول الصحف الاسرائيلية. وهذه العودة المجنونة لابد انها تستند إلى معطيات تبرر إعادة اطلاق عناصرها التدميرية، أو على الأقل تنتظر معطيات معينة تستخدمها واشنطن لتبرير تلك العودة امام الناخب ودافع الضرائب الاميركي. هناك الكثير من المعطيات الدولية والاقليمية التي يعتقد بوش أنها كافية لتبرير استنساخ أو "تخليق" النموذج العراقي وتصديره إلى محيط بلاد الرافدين. فالظروف الدولية الممانعة تراجعت قياسا بتلك المناخات التي اربكت تحركاته في العام .2003 والاعتراض الاقليمي الذي ظهر في حدود معينة ضد قرار الحرب على العراق دخل الآن في سياقات عصبية "طائفية/ مذهبية" اعطت "صدقية" للاحتلال كان بوش يحتاجها للتلاعب بمصالح دول الجوار وابتزازها سياسيا وأمنيا وماليا. ضمن هذه المعايير يعتقد بوش أن الامور نضجت كفاية وما عليه الا التحرك في كل الجهات والجبهات لقطف ثمار "الفوضى البناءة" التي أسس قاعدتها الأولى في بغداد. و"إسرائيل" في هذا المعنى فهمت مقاصد بوش حين اطلق تصريحاته التهديدية معتبرا إيران دولة خارجة على القانون وان سورية لاتزال ترفض الانصياع للنصائح التي وجهتها إليها إدارته. هذه التصريحات يطلق عليها في "العلوم العسكرية" قنابل دخانية وهدفها التغطية ومنع الطرف الآخر من الرؤية... بعدها تكون المفاجأة. هذا جنون، وبوش ليس بعيدا عن هذه الصفة
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 1136 - السبت 15 أكتوبر 2005م الموافق 12 رمضان 1426هـ