الاشتغال بالفقراء والتفكير فيهم من واقع الشبع والبطنة هو أرقى أنواع الترف الفكري، والتسلي الثقافي على الاطلاق، ذلك أن بين عالم الشبع وعالم الجوع بونا شاسعا، وتباعدا ظاهرا، لا جامع بين أطرافه، فعالم البطنة والانتفاخ له معادلاته واستمتاعاته، وعالم الأمعاء الخاوية له غصصه وتأوهاته. هذا التفارق ينعكس واضحا جليا على الاهتمامات، وطريقة التفكير، ودائرة الاحتكاك والعلاقات الاجتماعية، فالشبع يلقي برفاهيته ونعومته على كل شيء، ويصبغ الجوع ما حوله بلعناته اليائسة، وقساوته المخيفة من دون رحمة ولا رأفة.
اهتمامات المشبعين
إن المتخمين الذين استمتعوا بالمال إلى حد الشبع والسمنة القاتلة، وصرفوا على لذائذ الطعام ببذخ منقطع النظير، لم يستوقفهم حال المحرومين والمعدمين الذين لا سبيل لهم لهذه الأطايب والملذات، بل عادوا من جديد وبهاجس السمنة والشبع يصرفون المزيد من الأموال للانتظام في برامج تخفيف الوزن، وشراء الأغذية ذات السعرات الحرارية الأقل والسيولة المالية الأكثر، والاشتراك في النوادي الرياضية لحرق المزيد من الطاقة الزائدة عن حاجتهم. فهم للحفاظ على حال الشبع يصرفون المزيد لاستطعام المأكل والمشرب، ثم ينفقون أضعاف ما أنفقوا لتصريف الطاقة الزائدة والبحث عن طرق علاجها، ليتسنى لهم الاستزادة من فرص الاستمتاع والتشهي، وهذا الهم بطبيعة الحال بعيد كل البعد عن معاناة الجوع وآلامه كما هو واضح. وللوقوف على توجهات المشبعين الطائشة، واهتماماتهم الزائفة أشار تقرير صادر عن الأمم المتحدة للتنمية البشرية إلى "أن الغربيين ينفقون على الحيوانات الأليفة من القطط والكلاب ما مجموعه 37 مليار دولار في السنة! في المقابل يحتاج العالم إلى 40 مليار دولار لتغطية الاحتياجات الأساسية لكل الناس في الأرض في مجالات التعليم الأساسي والرعاية الصحية والطعام والماء النظيف والصرف الصحي".
عقلية الاقتدار
أما الفارق بين ذهنية الشبع والاقتدار وبين بساطة الفقر والمعدة الجائعة، فواسع لا يحد، وأقرب عقلية جشعة ترجمت هذا الواقع بصلافة كانت ملكة فرنسا ماري أنطوانيت التي أعدمت بالمقصلة، فقد اتجهت إلى الترويح عن نفسها بالملذات، مثل الحفلات الفاخرة وسباق الخيول والمقامرة، ويقال إنها سألت ذات مرة مسئولا رسميا عن سبب غضب الباريسيين، وخروجهم في مظاهرات حاشدة، فاجاب: "ليس لديهم خبز"، وجاءه ردها الصاعق: "إذن دعهم يأكلون الجاتوه" "الكعك". طبعا، هذا ما تقدمه عقلية الاقتدار من حل لأزمات الفقر والجوع والعوز، ويعود السبب إلى عدم الإحساس بمعنى الفقر، وقصور التصور عند طبقة الأغنياء لضغوط الحاجة وإلحاحها مع عدم القدرة على تلبيتها. إن قاموس المفردات في ذهنية الغني يكاد يخلو تماما من مصطلحات الفقر وآثاره لتحل محله بدائل أقرب لنفسه وأريح لقلبه، فالربح وزيادة رأس المال والمناقصات والعقارات والأسهم وأسواق البورصة، هي المفردات المألوفة والمتكررة على اللسان.
واقع العلاقات
تقتصر علاقات الأغنياء الاجتماعية واليومية عادة على من يماثلونهم في مستوى المعيشة، فطبيعة أعمالهم تختصر حياتهم ولقاءاتهم بالمصارف والأسواق حيث حركة الأموال وسيولتها أو مكاتب العقار وإدارات المشروعات والأسهم والاستثمارات، ولا تختلف سهراتهم عن ذلك كثيرا، فهي قريبة من أصدقاء العمل والمهنة، وهم من الفصيل نفسه عادة، وربما يقتصر لقاؤهم الاضطراري والعاجل بالفقراء من خلال نوافذ سياراتهم الفارهة إذا اضطروا للوقوف أمام إشارات المرور، وسمحوا لأعينهم بالالتفات إلى أهل العوز والحاجة، وعادة ما لا يبطئ الوقت بهم كثيرا حتى تتحرك سياراتهم فيتخلصون من هذا الضغط والإزعاج. من هنا، يمكننا أن نفهم الصوم من زاويته الإنسانية، وواقعيته في فهم الطبيعة البشرية، فألم الجوع، والإحساس بالضعف، وعدم القدرة ولو شرعا على تناول الغني لما يريد، والاستمتاع بما يحب، كلها محفزات ضرورية لإشعاره بويلات الفقير، وما يعانيه من لباس الجوع. إن من الأهداف الرئيسة لتشريع الصوم هو الإصغاء لما يعتري الفقراء والمساكين من عناء ونصب، ومن ثم الاستجابة الواعية المنبثقة من الاشتراك معهم في بلائهم ومعاناتهم، وهذا غاية النبل والإنسانية في هذا الدين الحنيف أن الإنسان حاضر في كل عباداته وتشريعاته. سئل الإمام العسكري "ع" لم فرض الله عز وجل الصوم؟ فأجاب: "ليجد الغني مس الجوع فيمن على الفقير". ويتكرر تعبير "يجد" في حديث آخر، فقد سئل الإمام الحسين بن علي "ع" لم افترض الله عز وجل على عبده الصوم؟ فقال: "ليجد الغني مس الجوع فيعود بالفضل على المساكين". ووجدان الجوع معايشته والإحساس الداخلي به، فيكون حضوره ليس ذهنيا ولا علميا، لكنه حضور وجداني يلمسه الإنسان بنفسه ويعاني آثاره. أما المس فمن أقرب معانيه مسك الشيء بيدك، كما عن لسان العرب لابن منظور، وبذلك يتضح المعنى، فهم بصيامهم كأنما تحيطهم وتتملكهم حال الجوع، وتمسك بهم كما يمسك الإنسان الشيء بيده. وفي رواية مفصلة يسأل هشام بن الحكم أبا عبدالله الصادق "ع" عن علة الصيام، فيجيب الصادق: "أما علة الصيام ليستوي به الغني والفقير، وذلك لأن الغني لم يكن ليجد مس الجوع فيرحم الفقير، لأن الغني كلما أراد شيئا قدر عليه، فأراد الله عز وجل أن يذيق الغني مس الجوع والألم ليرق على الضعيف ويرحم الجائع". إن المعايشة الاجتماعية تكشف "من دون تعميم"، أن الفقراء ومتوسطي الدخل أكثر حسا وإنسانية وكرما من الأثرياء، ولذلك لا يفاجأ الساعون في حاجات الناس من اعتذار الأثرياء أو من عطائهم الضئيل، وإذا صدمت بثري مرهف الحس تجاه الفقراء والجائعين، فامتلئ ثقة أنه حال نادرة، وأن أمثاله موجودون لكنهم قلة لا يشكلون نسبة تفرح قلوب الفقراء وتشبع أمعاءهم الجوفاء. * كاتب وعالم دين من المملكة العربية السعودية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1135 - الجمعة 14 أكتوبر 2005م الموافق 11 رمضان 1426هـ