"أنا لست معك في الرأي، ولكني مستعد للدفاع حتى الموت عن حقك في أن تعارضني" فولتير كثيرا ما فكرت بمسألة الوعي، ونظرت إلى درجة وعي الناس داخل المجتمع الواحد بنظرة فاحصة، وكثيرا ما نظرت بالنظرة الفاحصة نفسها إلى الأمم التي تقدمت وخطت خطوات كبيرة ومميزة نحو المستقبل نتيجة لدرجة وعيها وحضورها المتميز في شتى مناحي الحياة، وكثيرا ما نظرت في أسباب تفكك المجتمع وانحلال الأمم نتيجة لدرجة انعدام الوعي أو نقصانه عندها. الوعي مهم جدا في كل مناحي الحياة: في المنحى الاقتصادي، السياسي، التعليمي، الديني، الإبداعي، وحتى في المنحى الغذائي والتشخيصي والعلاجي؛ وقد لا أكون مبالغا أبدا إذا ما قلت إن الوعي هو الأساس في كل شيء؛ فأنا عندما أعي بحضور أو وجود شيء ما فأنا أعترف بأهمية هذا الشيء وأبدأ في محاولة كشفه والتحقق من درجة فائدته أو عدمها. وفي هذا صرخ الأولون عندما بدأ وعيهم بعد وهم قائلين: "اعرف عدوك"، وكذلك عندما وعى "كانت" بوجوده عرف أنه لابد أن يفكر، إذ قال: "أنا أفكر إذا أنا موجود". وكثيرا ما تتفشى الأمراض داخل المجتمع نتيجة قلة الوعي بخطورتها أو نتيجة عادات سيئة تأصلت في نسيجها الاجتماعي وبدت وكأنها جزء أساسي من لحمته؛ وكثيرا ما اكتشفت أدوية تعالج هذه الأمراض غير أنها لا تجد سبيلا إطلاقا للوصول إلى تلك الأمراض وحامليها للقضاء عليها وإنقاذ المجتمع منها وذلك لقلة المؤمنين بها على أنها أمراض مؤذية وخطرة في آن، ولكثرة المؤمنين بها على أنها ليست أمراضا ولا خطورة بها بأي حال من الأحوال. فالوعي بها على انها أمراض مفقود والوعي بها على أنها ليست أمراض موجود وبقوة. هنا يصبح الدواء عديم الفائدة ويصبح الوعي بها على أنها أمراض تجب مكافحتها عبئا كبيرا على صاحبه يؤرقه في صحوه ونومه. في هذه الحال تقوم عقول الأمم الواعية باستنباط الطرق للقضاء على هذه الأمراض، تارة بخداع تلك المجتمعات، إذ تجعلها تأخذ جرعات صغيرة من الدواء وعلى فترات متقطعة كي تحصنها نسبيا من هذه الأمراض بطريقة غير مباشرة ضمن أشياء محببة لها، وقد تكون هذه الطرق غير المباشرة في بعض الأحيان لا تعجب المرضى ولكنها تجد طريقها إلى المرض وتقضي عليه ببطء شديد وخسائر محدودة. وليس كل وعي بمشكلة ما مهم في إنقاذ المجتمعات والأوطان، فأنا قد أعي بمشكلة ما في المجتمع، ولكنني افتقد إلى الطريقة العقلانية لإنقاذ المجتمع من تلك المشكلة؛ بعضنا قد يستخدم العنف في استئصال تلك المشكلة إما باقتلاعها بالقوة أو بحرقها بشكل كلي، كثير من الثورات المشهورة وظفته بطرق سجلها لنا التاريخ بشكل تفصيلي؛ بعضنا الآخر قد يعي المشكلة ولكنه من المؤمنين بأن الوقت كفيل وحده باستئصالها من المجتمع وهو لذلك لا يحرك ساكنا. والتاريخ يخبرنا بأن المشكلة والواعي بها تكفل الزمن بهما ومحاهما من الوجود كليا ولم يبق من أثر لهما إلا في سطور التاريخ وصفحاته؛ بعضنا الآخر يعي المشكلة، ولكنه لا يفتأ يتحدث عنها ويزبد ويرغي، ولكنه لا يتعب نفسه في إيجاد حل لها، وهو لهذا يصبح مثل الأسطوانة المشروخة يكرر ذاته من دون أن يطرب أحدا، بل قد يزعج المرضى والأصحاء على حد سواء، ما يزيد في المشكلة ويعمقها، ويزيد من استحالة استئصالها. وهناك نوع آخر من الوعي يبقى صالحا أبدا وقد وظفته أمم كثيرة، وهو الوعي العقلاني. أي أن الأمم تعي المرض وتعمل العقل إلى أبعد حد لإيجاد الحلول والدواء المناسب للقضاء على المرض بطريقة حضارية تنتشل بها المجتمع مما هو واقع فيه، وتؤهله ليكون فاعلا نشطا يتقدم الوطن على ساعديه ويسعد كل من فيه. سبب الحديث عن الوعي هنا هو أن مجتمعاتنا العربية تعي كثيرا أن هناك أمراضا عدة داخلها، وتتحدث تارة عنها بشكل تفصيلي وتارة أخرى تتحدث عنها بشكل قذف نتف إخبارية مستقطعة من هنا أو هناك، لا تشكل وحدة خبرية مفهومة تساعد على الوعي بها، بل إنها في كثير من الأحيان تجعل المشكلة مستعصية على الفهم وتزيد إشكاليتها. مطلوب منا أن نكون على مستوى وعي لا يقل كثيرا عن الوعي العقلاني كي نصل بأوطاننا إلى مستوى يؤهلها للنهوض بمسئولياتها ليس فقط نحونا نحن الذين نحيا في كنفها الآن، ولكن لأجيال عدة أقلها على أقل تقدير خمسة أجيال. ترى... هل نطلب المستحيل؟ لا أظن ذلك. إذا متى يحين دورنا؟ يحين دورنا حينما نبدأ بالارتقاء بدرجة الوعي عندنا ونحاول قراءة الوقائع بشكل صحيح وليس شرطا بصوت عال. * كاتب كويتي مقيم في البحري
العدد 1134 - الخميس 13 أكتوبر 2005م الموافق 10 رمضان 1426هـ