رحب آية الله السيدمحمدحسين فضل الله، باعلان الاتحاد الأوروبي عن عزمه التفاوض مع تركيا للانضمام إليه، داعيا دول الاتحاد إلى احترام المسلمين في خصوصياتهم التي من أبرزها أن الإسلام لا ينظر إليه كعلاقة فردية أو خيار فردي بعيدا عن روح الجماعة. وأكد فضل الله أنه لا توجد أية إشكالية إسلامية في انضمام تركيا إلى دول الاتحاد، مشيرا إلى أنها يمكن أن تكون سفير الإسلام الحضاري إلى هذه الدول لإقامة حال من التعارف العامة والتواصل بين الشعوب الإسلامية والأوروبية. وتمنى من دول الاتحاد ألا تقع مجددا فريسة للدعاية الصهيونية التي تعمل على تضخيم حجم الوجود الإسلامي في أوروبا والتخويف من امتداداته المستقبلية واتهامه بالارهاب حتى يثبت العكس. جاء ذلك في سياق رده على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن الموقف الإسلامي الشرعي من عمليات الاتحاد والاندماج بين الشعوب الإسلامية وغيرها، وخصوصا نموذج تركيا وإمكان انضمامه للاتحاد الأوروبي، وفيما يأتي الجواب: أفسح الإسلام في المجال أمام المسلمين للانفتاح على الآخرين الذين يختلفون معهم في الانتماء الديني أو السياسي وحتى الفكري، وأشار إليهم أن يحترموا إنسانيتهم، إضافة إلى احترام مسألة الخلاف التي قد تنشأ من ظروف بيئية أو تاريخية أو سياسية أو اجتماعية وما إلى ذلك... ولأن الناس صنفان "إما أخلك في الدين أو نظير لك في الخلق"، كما جاء في كلمة الإمام علي "ع" لعامله على مصر مالك الأشتر.. وانطلاقا من هذا المبدأ فإن الإسلام يحترم الأخوة الإنسانية، ولها في نظرته كل التقدير. ليس هذا فحسب، بل إن الإسلام حث المنتمين إليه على أن يقوموا بحركة علاقات واسعة النطاق، سواء على مستوى الدعوة أو على مستوى مصادقة العالم، لأن الإسلام في تطلعاته إلى مستقبل الأجيال والأمم وفي نظرته إلى الطريقة التي ينبغي للمسلمين أن يسلكوها حيال الآخرين أراد منهم أن يكونوا أصدقاء العالم، لتكون رسالتهم في العالم رسالة سلام وخير ومحبة للشعوب الأخرى، التي من حقها الطبيعي أن تطلع على المبادئ والمفاهيم والأحكام الإسلامية، لتحدد موقفها السلبي أو الإيجابي منها، ومن الطبيعي أن أفضل طريقة لإطلاع الشعوب على هذه المفاهيم والقيم تتمثل في العلاقات المباشرة والصريحة التي تنشأ بين المسلمين أو الذين يحملون الإسلام كفكر وشريعة ومنهج حياة، وبين هذه الشعوب وتلك المجتمعات. وإذا كان البعض يتحدث عن سلسلة الحروب أو الخلافات التي تنشأ بين المسلمين وغيرهم، فإن هذه الحروب غالبا ما كانت تنطلق من عناوين سياسية، ومن خلال أن الآخر انطلق من خلفية استعمارية أو توسعية ضد الواقع الإسلامي، وعندها يكون رد الفعل الدفاعي واحدا من الخيارات التي تقرها كل الشرائع والقوانين، لا، بل قد يكون رد الفعل الوحيد أمام ضغط حالات الظلم والقهر والاعتداء. ولكن الإسلام في المقابل حرم على أتباعه والمنتمين له أن يمارسوا أية حركة ظلم ضد الآخر، بصرف النظر عن هويته الدينية أو لونه العرقي أو انتمائه السياسي: "لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من ديارهم أن تبروكم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين" "الممتحنة: 8". وانطلاقا من هذه المفاهيم ومن هذه القيم وجدنا المسلمين يعيشون الرحمة في نفوسهم إزاء المختلف معهم دينيا وسياسيا، وتجلى ذلك في العصر الإسلامي الأول وحتى في الحقبات التي أعقبته بما فيها تلك التي لم يكن الحكم إسلاميا بشكل صريح وحاسم، ولذلك رأينا اليهود يتعايشون مع المسلمين في شكل طبيعي من دون أن يعترضهم أحد إلا في الحالات التي كانوا يعتدون فيها على المسلمين، وفي حالات أخرى رأينا نوعا من التعاون معهم كما في تجربة الأندلس، كما شهد العالم لشفافية المسلمين في التعاطي مع المسيحيين: "ذلك بأن منهم قسيسين ورهبانا وأنهم لا يستكبرون" "المائدة: 82"، وقد شهد أحد المؤرخين الأميركيين المعاصرين بأن الأقليات لم تشهد حياة أفضل مع غير المسلمين كما شهدتها مع المسلمين أنفسهم... ويمكن لكل باحث أو مطلع موضوعي وعلمي أن يجزم بهذه الحقيقة، وبأن المنظومة التشريعية والأخلاقية والقيمية الإسلامية لم تنطلق على أساس حماية وتحصين الواقع الإسلامي فحسب، بل لحماية الآخرين أيضا ولتأمين أفضل العلاقات معهم، ولاحترام خصوصياتهم وأمنهم وواقعهم الخاص... إن الإسلام يتطلع إلى الأفق العالمي الواسع، وإلى الأمن والسلام العالميين كهدف من أهدافه الكبرى، وإلى الحوار الحضاري والعملي مع الشعوب كافة، ولذلك لم يرفض أي صيغة حضارية من صيغ اندماج المسلمين مع غيرهم، شرط الاحتفاظ بهويتهم وخصوصيتهم، وفي مقابل احترام المسلمين لأمن الآخرين وحركتهم وخصوصيتهم... إن من شأن أية علاقة تبادلية أو اندماجية بين المسلمين وغيرهم أن تؤسس لفهم واسع يمكن أن يشكل المدخل لعلاقات أوسع على المستوى الاقتصادي أو الفكري، وأن يساهم في خدمة البشرية كلها لناحية تقليص التوترات السياسية الناشئة عن الفهم الخاطىء للإسلام أو الناشئة عن فهم المسلمين غير الصحيح للآخرين. ولذلك كنا نشجع الجاليات الإسلامية في الغرب على الاندماج في المجتمعات الغربية بالطريقة الحضارية التي يشعر فيها أهل هذا البلد الأوروبي أو ذاك البلد الأميركي بأن المسلمين فيه هم مواطنون يعيشون هموم هذا الوطن في تطلعات أهله للعيش الكريم وللحياة الكريمة على المستويات الاقتصادية والاجتماعية والعلمية وغيرها. ومن هذا المنطلق، نحن لا نجد في انضمام تركيا إلى دول الاتحاد الأوروبي أية إشكالية من الناحية الإسلامية، بل إن ذلك قد يمثل عند حصوله حالا من التعاون العامة بين الشعوب العربية والإسلامية والشعوب الأوروبية باعتبار أن تركيا يمكن أن تكون سفير الإسلام إلى هذه الدول. ونحن نريد لهذا السفير أن يقدم للشعوب الأوروبية نموذجا عن الإسلام الحضاري المشرق الذي لا ينظر إليهم كموقع من مواقع الجذب الاقتصادي أو الرفاهية الاجتماعية، بل كموقع علمي يغري الآخر بالاستفادة منه وحذو طريقه في هذا الجانب، إضافة إلى الدور الكبير الذي يمكن أن تقوم "تركيا" به في توضيح حالات سوء الفهم التي تراكمها التطورات الأمنية والسياسية والعنفية المتصاعدة في المنطقة والتي تصيب في كثير من شظاياها أوروبا بطريقة متخلفة ومرفوضة. وفي المقابل، فإننا نريد لهذه الخطوة أن تكون مقدمة لدفع الكثير من الشرائح الأوروبية لكي تتخلى عن عنصريتها تجاه الإسلام والمسلمين والعالم الإسلامي، والتأكيد أن الموقف السلبي من تركيا لم ينشأ من كونها بلدا إسلاميا، وهو ما كان يشير إليه رئيس الوزراء التركي الراحل، "توركوت أوزال"، من أن أوروبا ترفض عضوية تركيا فقط لأنها بلد إسلامي. كما نريد لدول الاتحاد الأوروبي ومسؤوليه الذين بدأوا يلقون بالشروط الكبرى على تركيا لقبول عضويتها كالدعوة إلى ثورة ثقافية فيها أو التزام منظومة قوانين الاتحاد الأوروبي بالكامل، أن يلتفتوا إلى خصوصيات الشعوب وألا يتعاملوا مع المسلمين الأتراك من منطلق هويتهم الفردية، كما هي المسألة الآن مع الجاليات الإسلامية في أوروبا، فإذا كانت نصيحة البابا السابق لدول الاتحاد الأوروبي أن يحافظوا على الهوية المسيحية للاتحاد، فإنا ننصحهم بالمحافظة على الروح الإنسانية التي ينبغي أن تتحرك في المفاصل السياسية والقانونية لهذا الاتحاد، ليصار إلى احترام المسلمين كغيرهم في خصوصياتهم التي من أبرزها أن الإسلام لا ينظر إليه كعلاقة فردية أو خيار فردي بعيدا من روح الجماعة وأصالتها. إننا نريد لدول الاتحاد الأوروبي ألا تقع مجددا فريسة للدعاية الصهيونية التي تعمل على تضخيم حجم الوجود الإسلامي في أوروبا والتخويف من امتداداته المستقبلية، وخصوصا في الوقت الذي يتعرض المسلمون لملاحقة على مستوى العالم ويتم التعامل معهم كمتهمين بالإرهاب حتى تثبت براءتهم، ويواجهون حربا استكبارية تستهدفهم في وجودهم وعقائدهم ومفاهيمهم وقيمهم. ونريد للشعب التركي وكذلك لحكومته أن يأخذا بالعنوان الإسلامي ويصرا عليه بعيدا عن التعصب والتمذهب، بل أن ينطلقا ليمدا يد التواصل الحي مع شعوب أوروبا، ليكون العنوان الإسلامي حركة حضارية في هذا التواصل، لأننا نزعم بأننا كمسلمين نريد مد يد الحوار والمحبة ونسعى للتفاهم مع الآخرين، ولا نلقى إلا مزيدا من الصدود والملاحقة وعقابا للجماعة على أخطاء الفرد... إن الوقت حان لإقامة جسور تؤسس لتفاهم كبير مع أوروبا ومع الغرب وتنسف أسس التفرقة والغلو والتطرف والإرهاب سواء أكان إرهاب الأفراد أم إرهاب الدولة
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1134 - الخميس 13 أكتوبر 2005م الموافق 10 رمضان 1426هـ