في أواخر يونيو/ حزيران ،2004 بعد مغادرة بول بريمر بيومين، وقبل وصول جون نيغروبونتي وتسليمه "أوراق الاعتماد" بأسبوع، أعلن الشيخ الياور إعادة العمل بعقوبة الإعدام، قـبيل نقل الرئيس المخلوع صدام حسين إلى المسئولية القضائية العراقية. وفي هذه الفترة، كانت العدة تعد للهجوم على الفلوجة التي بقيت منذ سقوط بغداد في مقاومة مستمرة. في الخامس من يوليو/ تموز، اليوم التالي للعيد الوطني الأميركي، قامت القوات الجوية المشتركة العراقية الأميركية البريطانية بأول غارة على الفـلوجة، مركز مناطق المقاومة السنية غرب بغداد وغرب العراق. في أواخر يوليو قررت أميركا بدء رفع العقوبات وإجراءات الطوارئ المفروضة على العراق، الحصار المدمر للبنى الأساسية الاقتصادية والحياتية منذ غزو العراق الكويت في الثاني من أغسطس / آب .1990 وبدأت منذ 29 من يوليو، في التوجه إلى عموم الدول الدائنة للعراق "بما فيها السعودية" بطلب حذف الديون. بل وأضافت أميركا بأنها ترى أن تقوم السعودية بحذف ديونها على العراق، مشيرة إلى أن تلك "الديون" السعودية ما كانت إلا بصفة "المساعدات" "أي لا يلزم تسديدها!". وانعقد "المؤتمر الوطني" في بغداد لإطلاق العملية السياسية الديمقراطية. وشكل المؤتمر برلمانا محدود الصلاحيات كمجلس وطني مؤقت؛ وتم انتخاب فؤاد معصوم "وهو كردي عراقي" لرئاسته. واصل الأميركان في أكتوبر/ تشرين الأول ونوفمبر/ تشرين الثاني شن سلسلة من الهجمات بدعم من الحكومة العراقية لاستعادة السيطرة على معاقل المقاومين في منطقة المثلث السني "الفلوجة - الرمادي - بعقوبة" بعد أكثر من هجوم منذ سقوط بغداد في أبريل/ نيسان؛ وكان وراء ذلك الاجتياح التمهيد لتنظيم الانتخابات المقرر عقدها في مطلع العام التالي، في أواخر يناير/ كانون الثاني .2005 وفي نهاية الأسبوع الأول من نوفمبر تحديدا، تم إعلان حال الطوارئ على كامل الأراضي العراقية ما عدا "كردستان". وبعد ذلك بأسبوعين، في 21 نوفمبر ،2004 تم إعلان تكوين "المفوضية العليا المستقلة للانتخابات"؛ التي حددت يوم 30 يناير 2005/ 20 من ذي الحجة 1425هـ، يوما لإجراء الانتخابات. وفي منتصف الشهر التالي، بدأت الحملة الانتخابية "16 ديسمبر/ كانون الأول" ولو في جو من التحرز والتكتم تحاشيا للتعرض لهجمات من المقاومين، حتى قد سمع - أكثر من مرة - عن المطالبة بتأخير الانتخابات لقصر المدة المتبقية ولتردي الأحوال الأمنية في البلاد، وخصوصا في المنطقة الكبرى للعاصمة، وطبعا في منطقة "المثلث السني" غرب البلاد.
المرجعية ورأي الشعب
منذ أول أسبوع من يناير ،2005 بدأ الجيش العراقي الجديد بالتحول إلى قوة قتالية حينما ضم إليه "الحرس الوطني"، بدءا بـ 6 يناير. وفي عدد من المواقف المهمة والحاسمة، كان الأميركان ومشاركوهم من الفئات العراقية الشيعية في حاجة إلى الرجوع إلى السيد السيستاني، الذي كان موقفه ثابتا في نقاط محدودة عموما لكنها استراتيجية، كان منها: لزوم أخذ رأي الشعب في كل المنعطفات الأساسية ابان بناء العراق الجديد؛ وأن المفضل عنده أن يكون الإسلام هو المرجع الأساسي للحكم؛ وأن المرجعية الدينية في مدينة النجف "التي استقر هو فيها لأول مرة منذ عشرين عاما، بعد القضاء على تمركز السيد مقتدى الصدر فيها، والأخير هو الذي تولى لفترة دور المعارضة الواضحة لوجود القوات الأميركية وبقية القوات الأجنبية المؤتلفة معها؛ وكون جهازا مسلحا/ فيلقا اسماه "جيش المهدي"". ثم عاد السيستاني وكرر أنه لا يود التدخل في الأمور الحياتية السياسية المباشرة في البلاد "في مفارقة مع الأسلوب الخميني الذي أرسى "ولاية الفقيه" في إيران، حين نص على تولي أو توجيه رجال الدين وكبيرهم، مقاليد الحكم". في 30 يناير ،2005 تم إجراء الانتخابات فعلا، فكان الاقتراع التعددي الأول منذ نصف قرن، وقاطعتها الجماعات الأساسية للعرب السنة. وكما كان متوقعا، فلقد فازت القوائم الانتخابية التابعة لـ "اللائحة العراقية الموحدة" التي يتزعمها السيد عبدالعزيز الحكيم بمباركة السيد السيستاني. وحازت هذه المجموعة الغالبية المطلقة "البسيطة" "=50% + إنسان واحد". جاءت اللائحة الكردية بعدها في المرتبة الثانية في مراتب الغالبية.
البرلمان وزواج الياور
في منتصف مارس/ آذار ،2005 انعقدت "الجمعية الوطنية الانتقالية" "البرلمان" لأول مرة؛ ثم عقدت جلسة في الثالث من أبريل، وانتخبت حاجم الحسني "سني" ليكون رئيسا للبرلمان. بعد ذلك بثلاثة أيام، في السادس من أبريل، تم انتخاب جلال الطالباني "كردي" رئيسا للجمهورية كأول كردي يتسنم أعلى منصب في البلاد. وفي اليوم التالي، انتخب إبراهيم الجعفري "كان خلال الانتخابات من مترشحي حزب الدعوة" لتولي منصب رئيس مجلس الوزراء، رئيسا للحكومة. وفي الأثناء، تزوج الرئيس الشيخ الياور إحدى وزيراته الأربع "وزيرة البيئة ووزيرة حقوق الإنسان بالنيابة نرمين عثمان، وهي كردية"، فكانت الزوجة الجديدة بعد أم عياله التي سكنت معه الرياض ابان فترة معيشتهما هناك كسعوديين، وحيث أعماله التجارية منذ السنين الأخيرة من حكم صدام حسين. بعد ثلاثة أسابيع من بدء انعقاد جلسات البرلمان المنتخب، تم في 28 أبريل منح "الثقة" لحكومة الجعفري، غير مكتملة، وكانت طيلة الفترة السابقة في حيز عمليات المفاوضات لتكوينها. إلا أنه تم اكتمال تشكيل كامل الوزارة في 8 مايو/ أيار. وبعدها بأسبوع مباشرة، تقرر في 15 مايو، تكوين "اللجنة البرلمانية لصوغ الدستور"، من همام حمودي "عربي شيعي"، رئيسا؛ وفؤاد معصوم "كردي" نائبا للرئيس، مع تحديد 15 من أغسطس/ آب موعدا لإنهاء إعداد مسودة الدستور. وقبل حلول الموعد بأسبوع، اضطر الرئيس الطالباني إلى عقد اجتماع مع القادة السياسيين للتوصل إلى توافق بشأن 18 مسألة/موضع خلاف، ظهرت أثناء اجتماعات لجنة الصوغ. ومع أن الخلافات "الأساسية والعملية"، كانت ومازالت متمركزة على النفط والفيدرالية، وهما النقطتان اللتان شعر معهما العرب السنة بالخسران الأوضح، فإن مجمل نقاط الخلاف الدستوري "الأساسية"، كانت بشأن نقطتين مهمتين: 1- دور الإسلام في التشريع: فهل هو المصدر الوحيد أو حتى "المصدر الأساسي"، أم أنه فقط "مصدر أساسي"، من دون "ألـ" التعريف؟ أم لا يتم ذكر الدين أصلا؟ وكان السيد السيستاني قد دفع إلى ما وراء مجرد الذكر، مع أمل أن يذكر أن الإسلام هو "مصدر أساسي" على الأقل. وفي هذا توصل المفاوضون إلى صيغة تشير إلى أن الإسلام هو دين الدولة الرسمي. ولعل المقصود هنا هو ما يتصل بالعبادة الأساسية، وبذلك تم تحاشي موضوع التشريع وسن القوانين بالكامل بما يخدم غرضين: "أ" تحاشي الخلاف مستقبلا على أي الحكم "إسلامي" فيما يتصل بالاختلافات المذهبية السنية - الشيعية، من جهة. "ب" وفي هذا أيضا تحاش لموقف الأكراد الذي يميل عموما إلى العلمانية كمبدأ أصلا. ومن نافلة القول، أنه برز لتلك الصيغة "الدينية" اعتراض منتظر قوي من مختلف الفئات الدينية في البلاد، كالمسيحية وغيرها. وتم تداول فكرة طرح اسم السيد السيستاني مرشحا لجائزة نوبل للسلام، وعبر عن ذلك رئيس التحرير السابق لصحيفة "الوطن" السعودية، والمستشار الإعلامي للسفير السعودي في بريطانيا جمال خاشقجي "وكذلك عبر كاتب هذا المقال". 2- الهوية الوطنية: لقد تم تداول عبارة أثارت ثائرة العرب السنة داخل العراق، بل وبقية العرب عن بكرة أبيهم خارجه وعلى رأسهم أمين عام جامعة الدول العربية عمرو موسى؛ فقد كانت هناك عبارة تبدو أنها ستسلخ العراق من عروبته، مثل "وعرب العراق جزء من جامعة الدول العربية" "على اعتبار أن الأكراد ليسوا عربا". ومن هذا المأزق خرج المتفاوضون بالاتفاق على أن العراق بلد متعدد القوميات والأديان والمذاهب، وعضو في منظمة العالم الإسلامي وعضو مؤسس وفاعل في جامعة الدول العربية وملتزم بمواثيقها واتفاقاتها. "في صيغة من الصيغ الأولية السابقة للاتفاق، كانت العبارة تشير إلى أن "العراق عضو مؤسس في جامعة العربية" وكأنها حيلة تملـصية، وكأنها عبارة شبه تقريرية لحقيقة تاريخية مجردة"، فلذلك أصر العروبيون على إضافة لفظة "فاعل" إلى لفظة "عضو"... بل وأردفوا لها أيضا سريان "الالتزام" بـ "مواثيق" و"اتفاقات" الجامعة. وهناك محطات مفصلية أخرى لما بعد صدام، تستوجب التوقف أمام الفيدرالية، الاتحادية والحكم المحلي. * كاتب وأستاذ جامعي سعود
العدد 1133 - الأربعاء 12 أكتوبر 2005م الموافق 09 رمضان 1426هـ