لقد لعبت طبقة التجار - وخصوصا من الجيل الأول - دورا رياديا ليس في المشاركة ببناء النهضة الاقتصادية للبحرين وإنما بلعب موقع متميز من الحراك الاجتماعي والسياسي وتحسس آلام وآمال المجتمع وفتح خطوط ساخنة في الحوار مع صناع القرار.
إن دور التجار في المجتمع كان دورا مؤثرا، وكان لهم صوت مسموع في السلطة وطبقات الشعب المختلفة على حدٍ سواء، ويمكن في هذا المضمار أن نسترشد بالكثير الكثير من الأسماء التي كانت محل احترام الجميع، وسيحتفظ الوطن مجهودهم بماء من الذهب.
وقد تجلى الدور الاجتماعي والسياسي للنخب التجارية ليس على مستوى التأثير فحسب وإنما صنع التطورات التي شهدتها البحرين في مقاطع زمنية طويلة من تاريخها المليء بالأحداث.
ربما الكثير منا ينقصه الوعي بالدور الريادي الذي تمتع به التجار في الذاكرة الوطنية، ونجد أن المستشار البريطاني تشاريز بلغريف ركّز كثيرا في مذكراته التي أرّخ فيها لمرحلة مهمة من تاريخ البحرين الحديث وهي المرحلة التي سبقت وتزامنت مع حقبة الاستقلال، فقلما نجد مذكرات المستشار تخلو يوميا من الإشارة إلى أسماء مجموعة من التجار الذين كانوا بمثابة المرجع لمعرفة نبض الشارع.
كان جيل التجار الأوائل حريصا على فتح الجسور بين السلطة والشعب، والمتفحص البصير لتاريخ البحرين سيجد أن التجار كانوا في صدارة المطالبين بتحسين الأوضاع الاجتماعية والسياسية، وكانوا نواة الإضرابات حتى بلغ شأن إصرارهم على المطلب الوطني حدّ إعلان الإضراب وإغلاق محالهم التجارية في سوق المنامة القديم.
ولا يمكن أن ننسى أن هيئة الاتحاد الوطني التي تأسست في أعقاب خلاف طائفي مدبر كان التجار هم نواة التحرك الوطني الذي سرعان ما امتد هدفه من احتواء سحابة الصيف لتعود الحياة إلى سابق عهدها من الحب والود والوئام بين مكونات الوطن إلى الانطلاقة الواثبة نحو هدف جديد، وهو تحسين الوضع العام.
وبالفعل أخذ التجار يقيدون زمام العمل الوطني من خلال الهيئة الجديدة، ولأنهم كانوا من ذوي الحظوة الاجتماعية فإن السلطات العامة كانت تصغي لمطالبهم حتى لو لم تأخذ بها، واستمر العصر الذهبي لدور التجار من خلال المشاركة في المجلس التأسيسي الذي كتب دستور البحرين، وكذلك حضورهم الفاعل في أول انتخابات نيابية عرفتها البحرين حين انتخب المجلس الوطني في العام 1973.
وعلى رغم أن المجلس الوطني لم يستمر سوى عامين، إلا أن دور التجار برز مجددا في محطات مهمة وأولها محاولة التخفيف من وطأة الاحتقان الشديد في غمار حل التجربة البرلمانية، وقد حاول التجار الوصول إلى توافقات مع السلطة على شكل إدارة المرحلة، إلا أن الحظ لم يحالفهم في ذلك، لأن الرياح العاتية كانت أسرع مما تشتهيه السفن.
ليس ثمة شك في أن دور طبقة التجار قد تراجع إلى أبعد حدوده على مستوى التأثير في قضايا الشأن العام، وثمة عوامل مختلفة جعلت التاجر البحريني ينكفئ عن ممارسة دوره في الحراك السياسي والاجتماعي لصالح فئات ومراكز قوى مختلفة.
يمكن أن نقول إن الدور الذي كان يلعبه التجار على الصعيد السياسي انتقل إلى طبقة مختلفة وهي رجال الدين، وذلك بعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران في العام 1979، وقد خلقت الرمزية الكبيرة التي كان يتمتع بها الإمام الخميني حالة من الالتفاف الاجتماعي على دور رجل الدين في الحياة العامة فيما تسبب الهاجز الأمني في اقصاء دور التجار، ورغم الأهمية البالغة لدور رجل الدين فإن ذلك لا يعفي طبقات المجتمع الأخرى عن القيام بمسئولياتها أيضا في تقاسم الحمل الوطني.
إن ما يحسب لطبقة التجار في المقام الأول هو حميمتها ورشدها ووعيها بالمخاطر الجمة التي تنطوي عليها لعبة الأوتار الطائفية، ولذلك فقد برهنت النخبة الريادية من التجار على وطنيتها ونقاوة ساحتها من أدران الانقسام وتشطير المجتمع إلى طوائف ومذاهب في سبيل خلق كتلة وطنية عابرة للطوائف.
والكثير من الناس قد يتفقون معي أن دور طبقة التجار لم يعد كما كان، فالتاجر البحريني أصبح منعزلا عن مواقع التأثير في الحياة السياسية والاجتماعية إلا ما رحم ربي، وتراجع دور التجار في الحياة العامة من شأنه أن يخلق تباينا طبقيا غير مسبوق.
وقد بذلت بعض النخب التجارية جهودا للدفع بعدد من الوجوه في البيت التجاري البحريني للترشح للانتخابات البرلمانية السابقة وما قبلها، ولكن إعادة دور التجار في الشأن العام مهمة أكثر صعوبة من مجرد الحضور في المؤسسة البرلمانية.
وبالأمس افتتح سمو رئيس الوزراء «بيت التجار» بمناسبة الذكرى السبعين لتأسيس غرفة تجارة وصناعة البحرين، ونحن وإذ نشاطر البيت التجاري أفراحه بهذه المناسبة العزيزة في تاريخ وطننا، لكننا نجدها فرصة ذهبية لأن يلعب التجار دورهم الريادي الذي لعبوه في سابق السنين في المساهمة الإيجابية لترشيد التحولات السياسية والاجتماعية التي تشهدها مملكتنا في هذه الحقبة التاريخية المهمة، ونبعث لكم بباقة ورد ممزوجة بأماني عودتكم مجددا في قضايا الشأن العام.
إقرأ أيضا لـ "حيدر محمد"العدد 2427 - الثلثاء 28 أبريل 2009م الموافق 03 جمادى الأولى 1430هـ