فيما يتصل بأهم حدث وقع في مطلع هذا القرن - في نظري - ألا وهو احتلال أميركا للعراق، بمعاونة عدد من حلفائها بدءا ببريطانيا، فإن هناك الكثير من الحوادث الكثيرة والكبيرة والمتلاحقة، ما سيصعب حتى على من كان منا حاضرا شاهدا على مفاصلها الأساسية أن يتذكرها بحذافيرها؛ فهناك إمكان أن تتبخر الكثير من التفاصيل في الذاكرة. وكما في الحوادث التاريخية والتأريخية التي تمر على الناس، فستتقادم مع الأيام، وما سيؤرخ الآن قد يأتي بعد حين مشوبا بتحويرات مصحوبة بتفسيرات قد تغادر الواقع وتجافي الحقيقة، وخصوصا إذا ما تم الاعتماد حصرا على المسموع منه، وإذا ما اعتمد على مصدر أحدي التواتر أو أحادي الجانب؛ فذاكرة الناس غالبا ما يعتريها النسيان. ولعل بعضا من التسجيل هنا ومعه شيء من التعليق الأولي أقوم به هنا كواحد ممن عاصروا الحوادث وكانوا شهداء عليها، في مسرد لأهم الحوادث التي جرت منذ الثامن عشر من مارس/ آذار 2003 "اليوم المؤلم لبدء احتلال العراق"، إلى فترة إعداد مسودة الدستور وإيداعها لدى الأمم المتحدة في أواخر أغسطس/آب 2005؛ ثم بعيدها إلى يوم الاستفتاء العام على مسودة الدستور في الخماس عشر من أكتوبر / تشرين الأول الجاري. قبيل احتلال العراق: في 18 مارس ،2003 قامت أميركا وبريطانيا، ومعهما من انضوى تحت راية قيادتهما، بشن حرب على العراق تم الإعداد لها منذ شهور فيما لاحظنا، ومنذ سنوات فيما لم نعلم عنه مباشرة على رغم أن بعضنا لابد وأن رأى شفق الشمس قبل الغروب، على الأقل منذ غزو صدام للكويت في الثاني من أغسطس من العام ،1990 إن لم تكن البداية منذ قيامه بغزو إيران في بداية عقد الثمانينات من القرن العشرين. بدأ غزو واحتلال العراق في 18/،3 مستبقا "إنذارا نهائيا" كان قد أعلنه الرئيس جورج بوش للرئيس صدام حسين، ثم ما لبث أن باغتـه بشن الحرب في ذلك اليوم، قبل نهاية الإنذار بيومين، ربما جريا مع فكرة أن "الحرب خدعة". ثم ما لبث أن أعلن عن تقسيم البلاد إلى عدة قطاعات، فبينما تمركز الأميركان في بغداد، سرعان ما تم توزيع عدد من المناطق في البلاد بين كبار الحلفاء المشاركين في الحرب والاحتلال، بدءا ببريطانيا، الشريك الأكبر التي تمركزت في مدينة البصرة، الحاضرة الكبرى في المنطقة الجنوبية. في غرة مايو/ أيار ،2003 أعلن الرئيس جورج بوش، الانتهاء الرسمي للحرب على العراق؛ وفي اليوم التالي أعلن عن تشكيل قوة دولية لتنظيم الوضع العام في العراق بقيادة أميركا، وتم تعيين الجنرال المتقاعد جيه جارنر Jay Garner؛ وبعدها بفترة وجيزة أبدله بسفير سابق متقاعد "بول بريمر "Paul Bremer"، بمسمى "الحاكم المدني الإداري"، فأريد بذلك تحقيق هدفين: 1- إظهار وجه دبلوماسي أمام العالم، وتمييزا عن القيادة العسكرية التي كان لها الباع الواسع في البلاد، وصلة تلك القيادة بمنـفـذي الاحتلال، الجيش الأميركي ومحالفيه، فلم ترد أميركا إعادة تسليط الأضواء و"تأكيد العسكرة" باستمرار جيه جارنر "بلقب "جنرال"" في أوج بدء وجود أميركا في العراق المحتل. 2- وثاني الأسباب وراء التبديل كان حلا لخلاف "عائلي" بين ركني الحكم الكبيرين في الإدارة الأميركية: وزارة الدفاع وصقورها، ووزارة الخارجية وحمائمها. وبعد أسبوعين، أنشأ بريمر في السادس عشر من مايو سلطة الائتلاف المؤقتة، وأعلن حل "الأجهزة الأمنية"؛ وكذلك حظر مسئولي العهد السابق "حزب البعث" من تولي "الوظائف العامة". في السادس من يوليو/ تموز، وافق بريمر على إنشاء "مجلس الحكم الانتقالي" الذي ضم 25 عضوا ليمارس بعض السلطات التنفيذية مع احتفاظ بريمر بحق النقض "الفيتو". ثم قام تسعة من الـ 25 بـ "الحكم"، كل منهم لمدة شهر، بناء على الترتيب الألفبائي لأسمائهم الأولى، فابتدئ بإبراهيم الجعفري، وتلاه الباقون التسعة، بمن فيهم أحمد جلبي؛ ومحمد بحر العلوم؛ وعدنان باجهجي. وشمل التسعة عزالدين سليم، كرئيس دوري إلا أنه لم يكن له أن يتم مدته، فاغتيل في السابع عشر من مايو 2004 في عملية "انتحارية" في بغداد قامت بها بعض فئات "المقاومة". في الثامن من أغسطس، بدأ إنشاء الجيش العراقي الجديد. وفي الأسبوع التالي، صدر قرار الأمم المتحدة 1500 "14 أغسطس"، الذي أشار إلى الموافقة على تشكيل "مجلس الحكم الانتقالي"، "من دون أن يعترف به صراحة كما كان طلب أميركا". وفي الأول من سبتمبر/ أيلول، قام مجلس الحكم الانتقالي بتشكيل أول حكومة في عراق ما بعد سقوط حكم صدام حسين "في التاسع من أبريل/ نيسان 2003"؛ وضمت الوزارة، مرة أخرى، 25 وزيرا "كان فيهم أربع سيدات، لكن من دون رئيس وزارة، فكأن ذلك المنصب تم تركه بطريقة مدغمة لبريمر". بعد يومين، قامت ولندا، الدولة الثالثة من حيث حجم الكتائب المشاركة في الغزو والاحتلال "بعد أميركا وبريطانيا" فتولت في 3 سبتمبر قيادة منطقة جغرافية عسكرية مكونة من 5 من محافظات جنوب العراق "قامت بتسليم اثنتين منها إلى السلطات العراقية بعد مضي قرابة السنة، في أغسطس 2004". بعد نحو 6 أسابيع، ابتدأ تداول الدينار العراقي الجديد، في 15 من أكتوبر 2003؛ وفي اليوم التالي صدر قرار الأمم المتحدة "1511" ونص على تشكيل قوة متعددة الجنسيات، ولكن احتفظت أميركا بكامل السيطرة على البلاد. وفي الخامس عشر من نوفمبر/ تشرين الثاني، أعلن عن اتفاق بريمر مع مجلس الحكم على جدول زمني لنقل السلطات "من الأميركان إلى العراقيين" ينص على صوغ دستور وتشكيل حكومة مؤقتة قبل يونيو / حزيران 2004؛ وتنظيم انتخابات قبل نهاية .2005 في الربع الأول من العام ،2004 تم توقيع "قانون الدولة العراقية للمرحلة الانتقالية"، وبعضهم سماه قانون بريمر، وصدر في الثامن من مارس، وواجه ذلك القانون معارضة حادة وخصوصا من المرجع الديني الشيعي السيد السيستاني، إذ أشار القانون إلى الإسلام بأنه الديانة الرسمية للدولة، ولم ينص على أنه المصدر الحصري للتشريعات؛ كما أكد هذا القانون على "نظام الحكم الذاتي في كردستان". وفي 28 مارس قام بريمر بتسليم وزارة الصحة كأول الوزارات الـ 25 "للسيادة" العراقية؛ وما لبثت أن تبعتها الوزارات الأخريات، ومنها وزارة الدفاع التي سلمت في الرابع من أبريل. في 23 أبريل، بدأ التخفيف من قرار "اجتثاث" حزب البعث، في برنامج سمي بـDe-Baصthification Program كان وراءه احمد جلبي، أدى إلى تسريح ما لا يقل عن 30,000 موظف حكومي. وبعدها بأيام، تم عرض "العـلم الجديد" "وكان سيكون الخامس في تاريخ العراق، لولا أن تم رفضه بعد جدل حام بين كل القطاعات العراقية، العامة والخاصة، مع أن مصممه هو الفنان العراقي الجادرجي، المقيم في بريطانيا". لكن تصميم العلم الجديد المقترح جاء بكثير من الشبه مع العلم الإسرائيلي، "بخطين" أفقيين أزرقين في قرب أعلاه وأسفله، مع هلال أزرق يتوسط الخطين على أرضية بيضاء"؛ ولكن تم التخلي عنه سريعا. ومما ساهم في رفض الناس القاطع للعلم الجديد: 1- تأثير "السابقة" مع قوة الميل إلى الاستقرار زائدا سحر التعود على المألوف. ثم كان العلم السابق يحمل دلالات أخريات، كان منها الحنين إلى الماضي، كما في ألوانه "التاريخية العريقة" فتشمل الأسود والأخضر والأحمر إضافة إلى الأبيض، أو كما جاء في الشعر القديم: "سود وقائعنا، خضر مرابعنا بيض صنائعنا، حمر مواضينا". 2- ثم أن العلم لم يحو أية إشارة إلى الأكراد، ما ساهم في رفضهم إياه هم كذلك؛ 3- وأخيرا، وربما الأهم - فإن العلم تم تصميمه وصدوره بينما البلاد رازحة تحت احتلال أليم. من هنا تم الإبقاء على علم عهد صدام، على رغم دلالة إضافته أيام حربه لثماني سنوات مع إيران عبارة "ألله أكبر" على الأجزاء البيضاء منه. ولعل هناك من لاحظ أن تغييرا طفيفا حدث فقط على نوع الخط، فبدأت تظهر تلك العبارة مكتوبة بالخط الكوفي الآن، بدلا من خط الرئيس السابق صدام حسين. في غرة يونيو ،2004 قام ائتلاف الاحتلال ومعه مجلس الحكم بتعيين الشيخ غازي الياور رئيسا للعراق، فكان أول رئيس في عراق ما بعد الاحتلال؛ وتم حل مجلس الحكم الانتقالي؛ وتولى أياد علاوي رئاسة "الحكومة" الجديدة. وفي الأسبوع التالي، تبنت الأمم المتحدة في الثامن من يونيو القرار 1546 بشأن نقل السيادة إلى العراق، وحددت مراحل الانتقال الديمقراطي. كما نص القرار على "دور محرك" للأمم المتحدة في العملية السياسية. كما عينت الأمم المتحدة أحد كبار معاوني أمينها العام، سيسيل دي ميللو، البرازيلي الجنسية، ممثلا له. ولكنه، للأسف، وبعد عدة شهور، قامت جماعة انتحارية بتدمير مقر الأمم المتحدة بينما كان دي ميللو وعدد من الموظفين الأمميين العاملين معه فيه. ومع حلول العشرين من الشهر، أعلن أياد علاوي توليه السيطرة على "الأجهزة الأمنية" "البوليسية والدفاعية"، وبعد أسبوع، أي في 28 يونيو قام الائتلاف بنقل "السلطة" من بريمر إلى "الحكومة العراقية المؤقتة، قبل يومين من الموعد المحدد "غرة يوليو" احتياطا ضد احتمال قيام أعمال عدائية. وقام بريمر بحل "سلطة الائتلاف المؤقتة"؛ وقام المسئولون الجدد بأداء "اليمين الدستورية"؛ وغادر بريمر البلاد "ومعه سيدة عراقية تزوجها"! مع مغادرة بريمر حل محله مسئول أميركي جديد كان يشغل منصب مندوب الولايات المتحدة في الأمم المتحدة. مع بدء الشهر التالي، وبعد مضي عيد أميركا الوطني "4 يوليو"، قدم السفير الأميركي جون نيجروبونتي أوراق اعتماده إلى الرئيس الياور، وبذلك أعاد العلاقات الدبلوماسية مع العراق. وخلال العام 2004 قام العراق بتعيين 43 سفيرا وأعاد فتح 53 سفارة وبعثة دبلوماسية في عدة بلدان "كان منها مملكة البحرين، بتعيين السفير غسان محسن حسين، وهو أيضا فنان تشكيلي متمرس". السفير نيجروبونتي له تاريخ طويل في منطقة الهند الصينية، بما فيها كمبوديا وما جاورها، إذ عاصر نشاطات دامية مدمرة أتت على الأخضر واليابس. في أوائل تعيينه، بدأ ذكر إقامة أكبر سفارة لأميركا في العالم؛ كما ذكر الإعداد لإقامة ما لا يقل عن خمس قواعد ضخمة في أنحاء العراق. وبعد فترة وجيزة، تم تعيين نيجروبونتي رئيسا لجهاز الاستخبارات العامة "سي آي أي" في المقر الرئيس في واشنطن، وحل محله السفير الأميركي السابق زلماي خليل زاد، في أفغانستان. ولنا وقفة أخرى مع مرحلة ما بعد بول بريمر... في المحطات المفصلية منذ احتلال العراق. * كاتب سعودي وعميد سابق في "جامعة الب
العدد 1132 - الثلثاء 11 أكتوبر 2005م الموافق 08 رمضان 1426هـ