يتسم شهر رمضان في معظم البلاد العربية بأجواء روحانية تضفي على الشهر شيئا من القدسية، وتمتزج هذه الأجواء العامة باحتلال الصندوق السحري "التلفزيون" الذي تتكاثر محطات بثه كالفطر في فضائنا العربي الكبير كي تحتكر فكر الناس البسطاء، بما تبثه من برامج سطحية باهتة، فيغدو المواطن العربي حبيس صندوقين الأول هو التلفزيون، والثاني الصندوق الذي يحشر فيه عدد لا بأس به من المنتجين وكتاب المسلسلات "عقولهم"، والأخير صندوق يتصف بضيق الأفق في التفكير لما يقدمونه للناس من خيارات تلفزيونية. أرى في أن الكثير مما يقدم على الشاشات العربية في أجواء الحرب على الإرهاب وتخلف النمو وانتشار الأمية، والحروب المشتعلة أو القريبة إلى الاشتعال، أرى فيه ما يشجع بل ويرعى الإرهاب، ويعين على التنمية السلبية ويخدر المشاهد بخدر لذيذ يفقده الوعي بما حوله. ليس لهذا صنع التلفزيون، وليس لهذا أيضا فرض صوم رمضان. كثير من البرامج الدينية وما حولها من برامج "حكواتية" تقدم للجمهور الكثير من غسل الدماغ الذي يؤهلهم إلى اعتناق أفكار غير عقلانية، والمؤسف أنها تقدم باسم الدين، والإسلام منها براء. فيفتح البعض كتبهم القديمة ويغرفوا منها قصصا وحكايات قريبة إلى الخرافة، كتبها أناس أقرب إلى الدروشة، فيعيدوا صوغها من جديد ويقدمونها إلى العامة وكأنها حقائق، في عالم وصل به الحد من العلم شأنا عاليا. ولا يتوقف المنتج أو متخذ القرار في التلفزيون العام والخاص لحظة ليسأل نفسه ماذا نقدم للناس، وما هي الفائدة المبتغاة من مثل هكذا حكايات. ترى الواحد منهم يقدم البرنامج وهو يبسمل ويحوقل، ثم يفتح عينيه ويغمضها في عملية متكررة ويختار كلمات مضخمة وعسيرة المعنى ويأتي بأسماء مختلفة من الصحابة والتابعين. وتلعب التقنية الحديثة التي تصاحب المتكلم دورا مهما لتضفي على الحديث والمتحدث غموضا وسحرا يتلذذ بها القائل وينشده بها المتلقي السلبي، فنسقى جميعا في هذا الشهر الكريم الكثير من الأفكار السلبية عن ديننا ودنيانا، ثم يشتكي بعضنا من أن "التثقيف" الخطأ هو صلب الإرهاب وعموده الفقري، ولا ينتبه أحد إلى هذا التثقيف السلبي منقطع النظير الذي نواجهه كل ليلة من ليالي رمضان، يؤكد الأفكار الخيالية في عقل المتلقي الذي لا حول له ولا قوة وفي أجواء مساعدة على التلقي السلبي. هذا من حيث البرامج المحكية التي تصطاد الصائم في قمة فترته الروحانية، أما قبل الإفطار بقليل، أو بعده بقليل. أما المسلسلات ذات المنحى الايديولوجي "المخدرة" فحدث عنها ولا حرج. وقد تحولت مناسبة رمضان في فضائنا العربي على الأقل إلى مسابقة في تقديم الهابط والسريع والمبتذل، بل ان بعضها يحاول أن يوهمنا انه موجه لحرب الإرهاب والإرهابيين، وهو في الحقيقة يفرش الطريق سريعا ومعبدا لتزيين هذه الأعمال في تناول ساذج وسطحي للقضية المركزية أكانت فكرية أو عملية، بدا في بعضها أن كاتب ومخرج المسلسل التلفزيوني لا تربطه بأرضية الواقع أية رابطة. وان التفت إلى المسلسلات الاجتماعية، فإنها تقدم لنا مرة أخرى الهزال إلا فيما ندر، والنادر لا حكم له. فهذا الكم من المسلسلات التي تنتظر رمضان كل عام كي تستبيح المشاهد، وكأن أهلها لا عمل لهم ولا رسالة غير الحشو الممل وغير المنطقي في الحوادث والمواقف وتسلسلها، فهي تزيد الخدر السياسي خدرا اجتماعيا يتسرب إلى كل أفراد العائلة العربية، التي لا ترى من حولها أية خيارات حقيقية مختلفة عن هذا الزخم الممل من الحكايات المكررة. الطامة الكبرى في البرامج الخفيفة أو المضحكات، وهي في الحقيقة لمن يتمعن فيها مبكيات، كل همها الاستهزاء بشخصيات معروفة أو متخيلة، فلا نص حقيقي ولا معنى ولا هدف غير الإضحاك الفج والساذج، والخطورة في هذا النوع من "الترفيه السلبي" انه منتشر كانتشار الانفلونزا في الشتاء، تنشطر حبيباتها إلى أركان التلفزيونات قاطبة، فلا تنتقل من محطة إلى أخرى حتى يخرج لك ذلك البرنامج الأبله يضحك الناس على نفسه أو خلق الله. وتحتل الوجوه الحسنة من جهة أخرى أو ما يظن أنها حسنة والمفرغة من أية ثقافة كانت، حتى لو كانت ثقافة بروتوكولية في اختيار الكلمات، لتلج البرامج الأخرى، وهي وجوه لم تفك الخط بعد، ولم تفتح في حياتها كتابا للقراءة، كل رصيدها من المؤهلات وجه حسن وعقل فارغ، حتى عندما تقرأ ما كتب إليها في ورقة أمامها، تقرأه بأخطاء لغوية وهجائية فاضحة. يلاحظ حتى الشخص العادي أن برامجنا التلفزيونية في معظمها هي تقليد وتقليد أعمى لما يقدم في البرامج الغربية، وفي النقل من الغباء الكثير، ذلك ملاحظ على البرامج التي تقدم على شاشاتنا في الأوقات غير الرمضانية، فلا تستطيع أن تذكر برنامجا إلا وهو مقلد ومنقول من برنامج غربي معروف، ربما من دون استثناء، ويكاد المتابع الفطن أن يرصد عشرات من البرامج المنقولة، فلا البرامج الصباحية هي من ابتكارنا، ولا برامج المسابقات على كثرتها، ولا برامج اللقاءات السياسية، جلها إن لم يكن كلها منقول نقل المسطرة من برامج غربية معروفة ومشهورة! هذا العقم في الابتكار وصل أيضا إلى برامج رمضان التي يقحم بها المشاهد إلى حد التخمة. لعل كل ذلك يعود بنا من جديد إلى الفقر الثقافي المدقع الذي يحيط بنا، فعلى رغم الشكوى من "الغرب" المتكررة في خطابتنا السياسية والثقافية، فإن الوسائل التي ابتكرها الغرب، كالتلفزيون مثلا لم تكن لدينا القدرة الثقافية على استخدامه الاستخدام الأفضل والنافع لمجتمعاتنا، وهنا التعميم هو الأفضل من التخصيص، حتى لو وجدنا بعض البرامج النافعة فهي قليلة، بل ونادرة. برامج التلفزيون الرمضانية تزداد خطورتها لأنها بسبب الظرف الموضوعي تجتذب الكثير من المشاهدين، وهي بتسطيحها للأفكار أو ببث أفكار سلبية تزيد من أزمتنا أزمة، ومع ذلك ننظر إليها بأفواه مفتوحة وكان الأمر لا يعنينا! * كاتب كويتي
إقرأ أيضا لـ "محمد غانم الرميحي"العدد 1131 - الإثنين 10 أكتوبر 2005م الموافق 07 رمضان 1426هـ