اعتاد أهل هذا البلد على العطاء ومساعدة الفقير والمحتاج، وخصوصا في شهر رمضان المبارك، لأنهم موعودون فيه بالخير والمغفرة والرحمة والرضوان. من هنا يكون الشهر الفضيل مناسبة للبذل، طمعا في الأجر والمثوبة، وهو ما تشاهد مصاديقه في المساجد والجوامع والمآتم والجمعيات الإسلامية والصناديق الخيرية. في السنين الأخيرة دخل على الخط بعض الشركات الكبرى وبعض المصارف الوطنية والخليجية أيضا. ربما يتحفظ عليها بعض "المشككين" باعتبار أهدافها مجرد حملات دعائية "ترويجية" و"علاقات عامة"، ولكن نقول: لا بأس، فهذه هي السوق وقوانينها، مادامت تحول جزءا بسيطا جدا من الأرباح الطائلة لصالح الفقراء، وتخفف عن المعوزين جزءا يسيرا من أعباء الحياة، خصوصا في هذا الشهر الذي تزداد فيه المطالب وتتضاعف المصروفات. المهم ان هناك حركة اجتماعية عامة باتجاه عمل الخير وتسهيل تطبيقاته، إلا ان هناك وزارة تعمل في الاتجاه المعاكس تماما، فبدلا من القيام بما أنيط بها من رعاية "الشئون الاجتماعية"، نراها "منشغلة جدا" بمحاربة هذه الأنشطة الاجتماعية الهادفة، عبر سلسلة من الإجراءات الغريبة التي توالت في الفترة الاخيرة، بما ينم عن عدم وجود عمل فعلي داخل "نصف الوزارة" هذه. في السادس من سبتمبر/ أيلول الماضي، تلقت الصناديق الخيرية رسالة تطالبها فيها بموافاة الوزارة بـ "عدد صناديق جمع التبرعات، وأماكن تثبيتها ليتسنى للوزارة حصر عددها"، و"طبعا يأتي" ذلك في ضوء "تحويل" مسئولية إعطاء التراخيص لوضع صناديق جمع التبرعات في المساجد والمحلات التجارية من وزارة الشئون الاسلامية إلى وزارة "الشئون المهمة جدا جدا"! ولمعرفة تداعيات هذه الرسالة، نعلمكم بأن بعض المحلات التجارية اعتذرت عن احتضان هذه الحصالات، خوفا من تبعات "مخالفة القانون" بما يعرضها للإغلاق أو الملاحقة أو ربما الاعتقال! فما أكثر التهديدات التي ما فتئت الوزارة تصدرها بين حين وآخر ضد جمعيات ومؤسسات المجتمع المدني، كأنها أصبحت الوريثة الرسمية لوزارة الداخلية! ربما يظن القارئ ان الموضوع بسيط، ولكن الأرقام تكشف لنا خطورة الأمر، إذا عرفنا أن أحد الصناديق الخيرية على سبيل المثال لا الحصر، خسر أربعين حصالة من مجموع مئة، بما يمثل أكثر من نصف دخله الشهري البالغ 1800 دينار، يشمل 130 عائلة فقيرة، ويبلغ عدد أفرادها أكثر من ألف شخص، وتحديدا 1010 أفراد. إنظروا حجم الضرر الذي تسببه هذه الوزارة لأضعف الشرائح في المجتمع. في السابع والعشرين من الشهر الماضي أيضا، تلقت الجمعيات الاسلامية والصناديق الخيرية رسالة تبدأ بديباجة جميلة جدا، هذا مطلعها: "نود الإفادة بأن وزارة الشئون الإسلامية تبذل جهدا استثنائيا في العناية بالقرآن الكريم والاهتمام بمراكز التحفيظ المنتشرة في مختلف مناطق البحرين"، "وهو جهد نقدره للوزارة المذكورة عليه، وعموما هذا واجبها" ولكن رسالة "الشئون المهمة جدا" تضيف: "نود أن نؤكد على ضرورة الحصول على موافقة كتابية من وزارة الشئون الإسلامية عند الرغبة في فتح مركز لتعليم القرآن الكريم أو تدريس العلوم الشرعية، سواء كان مقر هذه المراكز الجوامع أو المساجد أو مباني خاصة...". نتمنى أن تعلم الوزارة اننا في شهر رمضان المبارك، الذي اعتاد فيه أهل هذا البلد على فتح مجالسهم ومنازلهم لتعطيرها بقراءة كتاب الله المجيد. ومساء أمس فقط، قرأت في مسجد بمنطقتنا إعلانا عن المجالس التي يتلى فيها القرآن الكريم، بما يزيد عن عشرين مجلسا، فهل هذه أيضا مطلوب أخذ موافقة كتابية من وزارة الشئون الاسلامية، أو أخذ إذن من وزارة "الشئون المهمة جدا" لاستمرارها تحت سقف القانون، ولكي لا تطالها الملاحقة القانونية فتهدد بالإغلاق؟! البعض يفهم كل هذه الإجراءات ضمن سياق إقليمي ودولي محموم لمحاربة الإرهاب وتجفيف منابعه، ما دام قرارنا لم يعد بأيدينا، ولكن هذه المؤسسات الخيرية التي يعمل بها صفوة أبناء البلد من أجل رفع العوز والحاجة عن الأسر المحتاجة، لا ينبغي معاملتها بالشك والريبة، وتعسير عملها والتشديد عليها ووضع المصاعب والتقييدات "القانونية" أمامها، بدوافع سياسية غير بريئة. الاتجاه العالمي في محاربة الإرهاب لا ينبغي أن يتجه لضرب أهم وأنشط مؤسسات العمل الخيري، التي تسهم بدور كبير في تخفيف الأعباء عن كواهل الأسر المحتاجة، ومن باب الإنصاف: عاملوها كما يعامل المتهم في المحكمة العادلة: بريء حتى تثبت إدانته". ربما تكون هذه القراءة خاطئة لما يجري في وزارة "الشئون الاجتماعية"، ولكننا سنكون حينئذ أمام قراءة أكثر سوءا، وهو ان الجماعة العاملين فيها لا يجدون ما يشغلون به أوقات فراغهم غير ملاحقة الناشطين المشغولين بالعمل التطوعي المفيد في هذا البلد! قالوا لكم حاربوا الإرهاب وجففوا منابعه، ولكن لم يقولوا لكم جففوا اللقمة الحلال من على أفواه الفقراء والمحتاجين
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1131 - الإثنين 10 أكتوبر 2005م الموافق 07 رمضان 1426هـ