فعلا، نحن نحتاج إلى اركيولوجية فكرية نمارس من خلالها عمليات حفر في طبقات الذهن لإزالة الاتربة التاريخية التي علقت به ولإذابة كل الحصى السياسية التي تراكمت فيه، فالشاب السنغافوري مشغول الآن في عملية ابتكار المشروعات الانمائية والشاب العربي مشغول بتسجيل الاهداف التاريخية على ملعب الانتماءات الاديولوجية وتطبيق ثنائية وهمية "دار الحرب" و"دار الاسلام"، مازال يفكر كيف يقوم بفتح الاندلس وعودة الامبراطورية العثمانية، وكيف يأخذ الجزية من المواطنين المسيحيين، يفكر في وهم عودة الخلافة وسبي جواري الغرب. اعرف ان هذا الكلام قد يكون موجعا ونازفا وحادا، ولكنه يعكس واقعا. اصبح الانسان المسلم اليوم يذبح كالدجاجة وبدم بارد فكيف بأهل الكتاب؟ الشاب الياباني يفكر في صرعة التكنولوجيا وهوس الانسان الالكتروني المتحرك ونحن هنا مهووسون بقتل بعضنا بعضا وفي الامعان لفتح دكاكين تجارية لبيع العلب الفئوية على بعضنا. عندما ذهبنا للغرب حملنا معنا أمراضنا العربية وأصبح في كل شارع غربي كانتون عربي يمثل تيارا قوميا أو إسلاميا أو اشتراكيا. لم نراع الخصوصية هناك على رغم علمنا بأهمية مراعاة الزمان والمكان، فاذا كنت في روما تصرف كما يتصرف الرومان. الآن، بريطانيا بلد الحريات بدأت تشرع قوانين علينا. لست شعوبيا ولكني اجد دوري ان امارس النقد. كل الامم بدأت تتطور. آسيا المتخلفة تحولت إلى آسيا تبشر بمستقبل اقتصادي واعد... الصين، اليابان، سنغافورة، ماليزيا وقس على ذلك. لو نظرنا للعقل السياسي الآسيوي هو ليس متقدما بمستوى كبير، لكن عقله الاقتصادي والمعرفي متقدم لأن اهتماماته بالديمقراطية السياسية لم تأخذه عن الانشغال بالاصلاح الاقتصادي. في مجالسنا، نجلس للنظر في تنظيرات كونية اممية وجيب الواحد منا ليس فيه مئة فلس. نجلس للثرثرة كالنساء المطلقات، على حد تعبير نزار قباني. وبيننا ممن مازالوا يحلمون بعودة ثورة 23 يوليو، وآخرون ينامون على احلام عودة ميشيل عفلق وآخرون مازالوا ينامون على انغام الثورة البلشفية... العالم تغير وغوربتشوف انتقد قبل 15 عاما النظرية الشيوعية ومازال بعض السياسيين يحلمون بتنظيرات دكتاتورية البرولوتاريا وتأميم الدولة... الخ. التأدلج يأكل مفاصل وعينا وأصبحنا مشلولين عن الحركة... الناس تتقدم ونحن واقفون وأصبحنا لا نستحق حتى لفظة "متخلف" كما يعبر ابراهيم البليهي في كتابه "بنية التخلف". العالم العربي لن يتغير اذا لم نقلل فينا غريزة الصراخ، صراخ النائب البرلماني وصراخ الوزير وصراخ الحزب وهكذا. اتذكر تعبيرا جميلا لأحد رواد الفكر "كل علم انتج روائعه الا علم السياسة انتج وحوشا". وعقلنا السياسي العربي لم يزل يعيش على وهم الشعارات ويكره الواقعية، يعتبرها كفرا وزندقة سياسية تستوجب الصلب على اعواد المشانق. نتشاجر من اجل بيضة وتركنا دجاج الاستحقاقات يطير. علمتني الحياة ان اللسان الطويل علامة اليد القصيرة و"العبقرية معناها الصبر" وعلى مستوى التنمية نحتاج إلى قراءة الآخرين قراءة تبحث عن اضاءاتهم. ليت وزارات التربية العربية تقرأ برامج تدريس مادة الرياضيات في سنغافورة ومدى روعتها، وكم وفرت من الخبراء لها كما طرح ذلك الكاتب الاميركي توماس فريدمان في مقال له في "نيويورك تايمز" عن الابداع السنغافوري. بعض المسئولين في بعض الوزارات يعانون من تكدس مياه جوفية تتجمع في عقولهم، فلا يرون ما هو لصالح التنمية التعليمية. في تقارير الامم المتحدة الأخيرة تتحدث عن محاور مهمة للتنمية الانسانية في العالم العربي: التنمية السياسية، التنمية المعرفية، تمكين المرأة، والتنمية الاقتصادية. ولها تفاصيل. في مصر "أم الدنيا" توجد عائلات تنام في المقابر وهناك دول ثورية عربية مشروعاتها هي بناء سجون ومعتقلات بدلا من بناء مستشفيات وحدائق ومراكز للتعلم والتكنولوجيا. اسمحوا لي تفاعلي مع اليابان واني لم أتفاعل مع دولنا العربية والاسلامية، اليابان ليست مقدسة وليست بلا اخطاء لكنها مبدعة لأنها تمتلك خامات بشرية عالية هي استنسخت آنشتاين وأديسون من الغرب، ولم تستنسخ منا محمد سعيد الصحاف أو أحمد سعيد أو غيرهما. نحن إذا وجدنا خامة عربية جميلة مثل الحريري نقوم بقتله لأنه ارتكب ذنبا كبيرا عندما عمل على تخريج 33 ألف خريج جامعي عربي ومن كل الطوائف من الجامعات العربية. لا نريد عقلا يابانيا فهو ثقيل على معدتنا الثقافية، نريد يابان "لايت" مخفف بلا سكر. ربما نقبل ذلك
إقرأ أيضا لـ "سيد ضياء الموسوي"العدد 1130 - الأحد 09 أكتوبر 2005م الموافق 06 رمضان 1426هـ