جاءت اتهامات رئيس الوزراء البريطاني طوني بلير لإيران بتورطها في حوادث البصرة التي قتل فيها عدد من الجنود البريطانيين لتضع العلاقات بين البلدين أمام محك جدي سيلقي بظلاله على الكثير من الملفات التي لم تعط الفرصة الكافية لأن تسوى بسبب حداثة العلاقة بين البلدين وتذبذبها من حين لآخر. الأزمة لم تبدأ من الآن بل هي وليدة إرهاصات حوادث محافظة خوزستان التي قالت إيران إن البريطانيين والكنديين متورطون فيها استخباراتيا ولوجستيا، ثم أزمة الملف النووي الإيراني الذي لعبت لندن فيه دورا محوريا لأن يخرج بصورة أكثر تشددا من ذي قبل.
تحقيب العلاقة المأزومة
لم تستقم العلاقات الإيرانية البريطانية طيلة 20 عاما، وكانت حبلى بالمنغصات والتجاذبات المتلاحقة، فبعد عام من انتصار الثورة الإسلامية قامت مجموعة إرهابية معادية للحكم الثوري الجديد باقتحام السفارة الإيرانية في لندن واحتجزت 26 شخصا قتل منهم اثنان فيما بعد خلال عملية الإنقاذ، وكانت تلك الحادثة بمثابة الإعلان الرسمي للقطيعة بين البلدين، بعد أن اتهمت طهران الحكومة البريطانية بأنها كانت متواطئة مع الجناة، وبقيت المصالح البريطانية في إيران منذ تلك الحادثة إلى ما بعد حرب الخليج الثانية تدار عبر سفارة السويد في طهران. وفي العام 1985 وإبان الحرب العراقية الإيرانية أعلنت طهران بأنها استولت على عتاد حربي ضخم يحوي أسلحة محرمة دوليا خلال هجوم مضاد قامت به ضد الجيش العراقي، تبين فيما بعد بأنه تصنيع إنجليزي وهو ما لم تنفه بريطانيا، وكان ذلك أيضا دافعا آخر لتوتر العلاقات بين البلدين. وفي مطلع العام 1989 أصدر الإمام الخميني فتوى أعلن فيها بأن مؤلف رواية "آيات شيطانية"، وهو بريطاني من أصل هندي، مرتد ودمه مهدور لقيامه بنشر رواية مسيئة للإسلام وللنبي محمد "ص". وقد أدت تلك الحادثة إلى توتر شديد في العلاقة البينية، وخصوصا مع التئام باقي الدول الأوروبية في تشديد العقوبات المفروضة من قبلها على إيران. بعد الغزو الصدامي للكويت في أغسطس/آب 1990 وما تلاه من حرب مدمرة، أخرجت القوات العراقية من الكويت، قامت إيران بوساطة استخباراتية لدى حلفائها في لبنان، تم بموجبها الإفراج عن البريطاني تيري وايت الذي كان مختطفا في بيروت لمدة 5 أعوام، وأدى ذلك إلى تحريك المياه الراكدة في ملف العلاقات بين طهران ولندن وظهور بوادر تحسن حذر، إلا أن طرد بريطانيا لثلاثة إيرانيين بتهمة التخطيط لقتل سلمان رشدي في العام 1992 وقيام إيران بطرد دبلوماسي بريطاني أفسد الأمر من جديد. ثم جاءت قضية ميكونوس في العام نفسه حين قتل ثلاثة معارضين إيرانيين أكراد من بينهم صادق شرفقندي في العاصمة الألمانية برلين، وما تلاه من تضمن لائحة الاتهام القضائية الصادرة عن وزارة العدل الألمانية أسماء مسئولين إيرانيين كبار، بينهم المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية السيد علي الخامنئي، والرئيس السابق الشيخ هاشمي رفسنجاني، ووزير الأمن في حكومة الإعمار الشيخ علي فلاحيان، الأمر الذي حدا بالدول الأوروبية لأن تسحب "مجتمعة" سفراءها من إيران. وفي العام 1998 أعلنت الحكومة الإيرانية أنها غير ملتزمة بتنفيذ فتوى الإمام الخميني، إلا أنها لا تستطيع إلغاءها كحكم شرعي، وقد أدى ذلك لأن تنفرج العلاقة بين البلدين بشكل لافت، أعقبها زيارة وفد الترويكا الأوروبية إلى إيران في يوليو / تموز من العام نفسه، لتكلل لاحقا وبتحديدا في العام 1999 بقيام البلدين برفع التمثيل الدبلوماسي بينهما إلى مرتبة السفراء، إلا أن العلاقات ساءت من جديد مع بداية العام 2000 بعد الأحكام القضائية التي صدرت بحق اليهود الإيرانيين العشرة المتهمين بالتجسس لصالح الكيان الصهيوني في إيران، وما رافقها من ردود فعل قوية من الاتحاد الأوروبي، ثم ساءت الأمور أكثر عندما قام مواطن بلجيكي من أصل إيراني برفع دعوى قضائية في بلجيكا تتهم رفسنجاني بإعطاء تعليمات لجهاز الاستخبارات الإيراني لممارسة عمليات اعتقال وتعذيب بحق مدنيين، وهو ما دفع بالأمور لأن تأخذ منحى أزمة شاملة ما بين إيران والاتحاد الأوروبي، إلا أن تجميد القضاء البلجيكي لتلك الدعوة أعاد الأمور إلى نصابها، الأمر الذي دفع بطهران لابتعاث وزير خارجيتها كمال خرازي للندن في ذلك العام، وهي أول زيارة يقوم بها وزير خاجية إيراني إلى بريطانيا منذ انتصار الثورة الإسلامية في العام .1979 ثم قام جاك سترو بزيارة طهران في العام 2001 وهي أيضا أول زيارة لوزير خارجية بريطاني إلى إيران منذ 23 عاما، إلا أن العلاقة تدهورت مرة أخرى بعد رفض طهران لاعتماد أوراق ديفيد ريداوي كسفير بريطاني لديها، بسبب اتهامات له حول علاقته الوطيدة مع "إسرائيل". وفي أغسطس 2003 أعلنت بريطانيا أنها ألقت القبض على سفير إيران السابق لدى بوينس إيريس هادي سليمان بور على خلفية اتهامات أرجنتينية له بالضلوع في تفجير مقر جمعية يهودية أودت بحياة 100 يهودي في العام .1994 وأدى ذلك إلى أن تسحب إيران سفيرها في لندن، وتتعرض السفارة البريطانية في طهران لإطلاق أعيرة نارية أصابت مكاتبها العلوية بأضرار. وفي يونيو / حزيران 2004 اعتقل الحرس الثوري الإيراني جنوب ممر شط العرب المائي سبعة من أفراد قوة عسكرية بريطانية خاصة لدخولها الأراضي الإيرانية، وساهمت تلك الحادثة في تأزيم العلاقة أكثر. ومع اشتداد أزمة الملف النووي الإيراني منذ اتفاق سعد آباد وحتى اتفاق باريس كانت العلاقات بين طهران ولندن في حال تذبذب، إلا أنها ظلت متماسكة لحين إعلان الترويكا الأوروبية أخيرا توصيتها للوكالة الدولية للطاقة الذرية بإحالة الملف النووي الإيراني لمجلس الأمن.
اتهـامات بليـر
قد تكون الاتهامات البريطانية الأخيرة في سياق الضغوط الأميركية المتصاعدة ضد إيران لثنيها عن الاستمرار في مشروعها النووي والتهديد لها من أنها ستواجه عزلة دولية إن هي استمرت في ذلك المشروع. اللافت في الأمر أن الرئيس العراقي جلال الطالباني ورئيس وزرائه إبراهيم الجعفري سارعا إلى نفي تلك المزاعم بصورة مباشرة، فقد قال الرئيس الطالباني في لندن في كلمة ألقاها في "الرابطة الملكية الدولية" يوم الخميس الماضي بحضور عدد من كبار المسئولين البريطانيين والسفير الإيراني في لندن، إن إيران والعراق بلدان صديقان وجاران، وأن أعضاء الحكومة العراقية الحالية بمن فيهم رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء ورئيس البرلمان وأعضاء الحكومة من أفضل أصدقاء إيران ويعدون من حلفائها. مضيفا أن الحكومة الإيرانية أعلنت مرارا بأنها تدعم الحكومة العراقية الجديدة وتدعو إلى إرساء الاستقرار والأمن في العراق، وإذا ما ثبت وجود معدات عسكرية إيرانية بيد المتمردين فهذا لا يدل على مساعي إيران لإثارة الاضطرابات في العراق، ذلك لأن أي شخص أو مجموعة بإمكانها القيام بمثل هذه الاجراءات. يبدو أن البريطانيين غير مدركين تماما لخطورة تصعيدهم ضد طهران، لأن ذلك من شأنه أن يؤثر على مسيرة العلاقات التجارية ما بين الاتحاد الأوروبي وإيران، وخصوصا أن الاتحاد أقر سابقا بعدم إدراج المطالب السياسية الأوروبية من إيران باعتباره شرطا لتوقيع اتفاق تجاري ضخم معها، وهو ما جعل المستثمرين الأوروبيين لأن ينفقوا أكثر من عشرة مليارات دولار في إيران خلال الأعوام الخمسة الماضية معظمها في قطاع الطاقة. أضف إلى ذلك فقد تكون بريطانيا هي الخاسر الوحيد في الاتحاد الأوروبي اثنتان منه "ألمانيا وفرنسا" تعتبران من أهم الشركاء الأوروبيين مع إيران، مع تذكر أن اللجنة الاقتصادية الإيرانية - الألمانية تنشط بقوة منذ يوليو .2000 وفي هذا الصدد تشير التقديرات إلى أن الصادرات الألمانية إلى إيران شهدت في نهاية شهر مارس/آذار العام 2000 نحو 602 مليون مارك، فيما بلغت الواردات 279 مليون مارك، كما بلغ إجمالي الاستثمارات الألمانية في إيران نحو 90 مليون مارك، وزيادة في حجم ضمانات هرمس من مبلغ 200 مليون مارك إلى مليار "نحو 500 مليون دولار"، وهي ضمانات تقدمها الحكومة الألمانية لحماية استثمارات الشركات الألمانية لدى توظيفها في إيران. كما أن الشركات البريطانية غير مستعدة من جديد لأن تضحي باستثماراتها الناشئة في الأراضي الإيرانية وفي حقل بارس الجنوبي بالذات، وفي بحر قزوين أيضا. وهي مصالح لا يمكن تغيير مسارها عبر ارتهانات سياسية طارئة. ويبدو أن إعلان مدير العلاقات التجارية في "لجنة الشرق الأوسط" البريطانية مايكل توماس من أن وفدا اقتصاديا يتألف من ممثلين من القطاع الخاص في بريطانيا لاثنتي عشرة شركة في مجال المعادن والصناعات الثقيلة سيزور طهران في الرابع من نوفمبر / تشرين الثاني المقبل، لبحث سبل تنمية العلاقات الاقتصادية بين البلدين هو أقرب دليل إلى ما نذهب إليه. * كاتب بحريني
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 1130 - الأحد 09 أكتوبر 2005م الموافق 06 رمضان 1426هـ