هناك معضلة لا يستطيع المرء فك لغزها قبل قراءة متأنية وفاحصة لمسودات "النظم الأساسية الداخلية" الجديدة للجمعيات السياسية، التي أشرفت نهاية مناقشتها و"تفصيصها" في ورش عمل لـ "الجمعيات العمومية" في "القفول وأم الحصم والماحوز". وثمة سباق محموم على "التسجيل والتحدي" في قانون الجمعيات الجديد الذي أقره المجلس الوطني بغرفتيه، وصدق عليه عاهل المملكة في الحال، فيما طالبت تلك الجمعيات "التي كانت تسعا" بإلغائه، أو تعديله، ومن ثم... "مسايرته" بتحد، أو كـ "خيار واقعي" عند الجمعيات التي نقل بعضها من "جمعيات خيرية إلى سياسية"، من دون مطالبات، أو خوض معركة واحدة من أجل الديمقراطية الحقيقية وترسيخها في البلاد، وتعنونت بفضل هذا القانون كما في المثل القائل: "قبض الفأر شحمه!"؛ بينما التنظيمات التي دفعت بنضالها ضريبة المواقف السياسية من قتل وتعذيب وتشريد ونفي واعتقال، تم تكميمها بإحكام قبضة القانون وإبعادها عن اللعبة السياسية، أو تهميشها لتتحول بالتالي إلى ديكور وجاهة "لحرية العمل السياسي" في البلاد. يقول المفكر السياسي موريس دوفرجيه في كتابه "مدخل إلى علم السياسة": "يجري الكفاح السياسي على مستويين: يجري من جهة بين أفراد وفئات وطبقات تتصارع للحصول على السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير عليها. ويجري من جهة أخرى بين السلطة التي تحكم والمواطنين الذين يقاومونها. إن السلطة، في جميع الجماعات الإنسانية وحتى في المجتمعات الحيوانية، تهيئ للذين يملكونها منافع وامتيازات: أمجادا وسمعة ومتعا. لذلك تدور حولها معارك حامية. وهذه المعارك تدور أولا بين أفراد يصارعون من أجل مقعد في المجلس النيابي أو من أجل منصب محافظ أو منصب وزير أو نجوم جنرال أو أرجوان كاردينال. وهذه النزاعات الفردية تشفع في المجتمعات الكبرى بنزاعات بين فئات في داخل المجتمع الكلي: خصومات مديريات وأقاليم وأقوام، صراعات طبقات وعروق وعقائد". ويواصل دوفرجيه قوله: "وتدور المعارك ثانيا بين المواطنين والسلطة، بين الحاكمين والمحكومين، بين أعضاء الجماعة وجهاز الإكراه الاجتماعي. وليس الصراع طبعا بين المواطنين من جهة والسلطة من جهة أخرى، بل بين بعض المواطنين القابضين على زمام السلطة وبين مواطنين آخرين يخضعون لهذه السلطة". "ص17". على هذه الخلفية، وعلى خلفية القول المأثور لـ "آلان": "إن السلطة إغراء دائم، وما من إنسان يملك كل شيء ويتحرر من كل رقيب إلا ويضحي بالعدالة في سبيل أهوائه". تدور المعارك السياسية السلمية في البحرين بين التنظيمات السياسية وبين السلطة، ومن حق التنظيمات الطبيعي أن توجه نضالها للحصول "على السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير عليها"، وليس الطبطبة عليها. وأعتقد أن كل من يقرأ مشروعي النظامين الأساسيين لجمعية العمل الديمقراطي والمنبر الديمقراطي التقدمي واختصارهما كتنظيمين سياسيين؛ الأول: "وعد"، والثاني ربما يكون "مد"، سيقتنع إن شعار "التسجيل والتحدي" الذي أطلقه المحامي الوطني محمد أحمد، سيكون امتدادا للصراع على السلطة أو المشاركة فيها أو التأثير عليها، وإن كان دستور 2002 والقوانين لا تتيح ذلك إلى التنظيمات السياسية والجماعات للتنافس على: "التبادل السلمي للسلطة التنفيذية" في "مملكة دستورية عريقة"، غير أن "وعد" في مشروع النظام الأساسي ومادته الـ "6" "المبادئ والأهداف" فقرة 5 يشير إلى ذلك صراحة: "يؤمن تنظيم "وعد" إيمانا مطلقا، بالمبادئ العامة والمشتركة في كل ممارسة ديمقراطية مستقرة، وهي خمسة مبادئ: مبدأ لا سيادة لفرد ولا لقلة على الشعب، ومبدأ سيطرة أحكام القانون، ومبدأ عدم الجمع بين السلطات، ومبدأ ضمان الحقوق والحريات العامة، ومبدأ تداول السلطة". وبالنسبة إلى "مد" وإن خلى مشروع نظامه الأساسي من كلمة "التداول السلمي للسلطة" فإن مفرداته وبرنامجه السياسي تعطي الانطباع نفسه في حق التداول السلمي للسلطة والمبادئ الخمسة عند "وعد"، إضافة إلى ذلك، فإن "مقدمة" النظام الأساسي لـ "مد" التي اعتبرتها المادة الأولى في النظام الأساسي "جزء لا يتجزأ من هذا النظام" أشارت بوضوح للهوية السياسية والفكرية للمنبر بتأكيدها "أن المنبر الديمقراطي التقدمي تنظيم سياسي حزبي جامع يتبنى المنهج العلمي والمادي الجدلي والتاريخي في تحليل الواقع وفهمه، ويستلهم كل منجزات العلوم والتراث العربي الإسلامي والإنساني التقدمي وأفكار التنوير والحداثة والتقدم، ويتسع لجميع المواطنين من النساء والرجال من دون تمييز بسبب العرق أو الجنس أو المعتقد الديني الساعين إلى بناء المجتمع الديمقراطي التعددي والدولة القائمة على قيم الحرية والمساواة والعدالة الاجتماعية، والنهوض بالأوضاع المعيشية لجماهير الشعب الكادح وتأمين متطلبات العيش الحر الكريم لها". "وعد" و"مد" وهما في طريقهما إلى "التسجيل والتحدي" بنظاميهما الأساسيين الزاخرين بالتفاؤل والتحدي السياسي، ربما تناسوا قبل توفيق أوضاعهما وفقا لأحكام قانون الجمعيات السياسية رقم "26" لسنة ،2005 أن نظاميهما لن يقبلهما المشرع بسبب المفردات الواردة فيهما كتنظيمات حزبية وليست "جمعيات سياسية" مقيدة بأحكام القانون. وهنا نتساءل مع المتسائلين: ما البديل لهذه النظم الأساسية في حال تم الرفض من قبل وزارة العدل؟ فهل سترفع الجمعيات السياسية التي حولت نفسها إلى أصلها "تنظيمات سياسية" برفع شعار: "يا هلمركب يا أركب!" بلغة التحدي، أم ستساير "العدل" لتفصيل ثوب على مقاساتها، حتى وإن كانت "دشداشة مني جوب" فوق الركبة؟! نعرف أن وزارة العدل تملك سلطة تنفيذ القوانين، لا الخروج عن النص، والنظام الأساسي لـ "وعد" و"مد" لا يتوافقان مع قانون الجمعيات، ولا أظن أن هذه المشكلة غائبة عن عقول الساسة في التنظيمين اللذين يريدان تفسير التاريخ "طبقيا" كما يدعي ماركس، وتفسير التاريخ بهذه اللغة وإن كانت سليمة لا تصلح في ظل موازين القوى وهيمنة السلطة على كل شيء وتتدخل حتى في عد أنفاس الناس... فيا تنظيمات "التسجيل والتحدي" أعدوا مسودات بديلة أخرى للعمل العلني، أو تحدوا إلى ما لا نهاية برفع السقف وإن كره الكارهون
العدد 1129 - السبت 08 أكتوبر 2005م الموافق 05 رمضان 1426هـ