كان عنوان مقال الثلثاء الماضي: "والآن. .. بازار السنة". التحديد الزمني في العنوان كان كافيا لاولئك الذين يحسنون القراءة. فهو لا يقترح اكثر من ذاكرة نشطة تربطه ببعضه وتربط "الان" بما قبلها. اي بعبارة اخرى اننا نتحدث عن بازار جديد يأتي بعد آخر سبقه أو ربما ردا عليه. في معرض تعليقه على تأسيس جمعية الوفاق الوطني الاسلامية في العام ،2001 يورد الكاتب حافظ الشيخ حقيقة يمر عليها الكثيرون بشكل لاهث عندما يرى ان "السنة" في البحرين لم يتحركوا سياسيا في تاريخ البحرين الحديث الا ضمن الاطار الوطني الاشمل. لقد وردت تلك الاشارة في معرض انتقاد الشيخ لتأسيس جمعية سياسية شيعية خالصة. لكن تلك الاشارة ليست سوى المدخل المناسب الان للتعامل مع هذا التوجه الجديد الذي يجري بنوعين من المسميات لخلق ما يسمى بتكتل سني. فهناك الدعوة التي يتبناها المحامي عبدالله هاشم لانشاء كيان سني على شكل تحالف أو تكتل سياسي، وهناك الدعوة التي ينشط من اجلها الشيخ ناصر الفضالة لتأسيس مرجعية دينية سنية. لكن الملاحظة المبكرة التي يحيلنا فيها الشيخ الى حقيقة لا يدركها اللاهثون الان هي ان تاريخ البحرين الحديث لم يسجل ان "السنة" قد تحركوا سياسيا ضمن اطر طائفية. ليست هناك جينات وراثية خاصة تفسر هذا، بل التاريخ نفسه. فاذا كانت الحداثة في البحرين قد ارتبطت بالانفتاح على العالم مطالع القرن العشرين، فان ذلك الوقت كان وقت الافكار القومية بجدارة. وفي ملمح مبكر للحس القومي، يسجل المؤرخ الراحل مبارك الخاطر معلومة قد لا تخطر على البال: بعد قليل من قصف البوارج الايطالية للسواحل الليبية في العام ،1911 بادر وجهاء البحرين ومثقفوها لجمع تبرعات وارسالها للمجاهدين الليبيين عن طريق الازهر. كان الخاطر رحمه الله يسر الي بتلك المعلومة وانا اجري معه حوارا صحافيا في اوائل الثمانينات مشيرا الى رغبته في تضمين وثيقة بهذا الخصوص في كتابه القادم عبارة عن رسالة مرسلة من مصر الى احد وجهاء البحرين من عائلة خنجي تفيد باستلام التبرعات. وبعد اعوام قليلة سيبرهن هؤلاء السنة على تأصل حسهم القومي عندما اختاروا سوريا هو عثمان الحوراني وطاقما من المعلمين السوريين ذوي الحس القومي الملتهب ليكون اول مدير لمدرسة الهداية. وبعد عام أسس الشيخ ابراهيم بن محمد آل خليفة وعبدالله الزايد ورفاقهم النادي الادبي في المحرق، لكن يتعين مع هذه الاستعادة السؤال عما كانت تعنيه الثقافة في ذلك الوقت. لم تكن الثقافة في ذلك الوقت لتعني سوى فتح افق يتجاوز حدود الجزيرة الصغيرة، ويسجل الخاطر وكل الكتب التي ارخت لتلك الحقبة ان استيراد الصحف والصلات مع مثقفي مصر والشام والعراق كانت ابرز انشطة النخبة المثقفة في ذلك الوقت. أي الخروج من فضاء الجزيرة الصغير الى الفضاء الاوسع، الفضاء العربي والعالمي ايضا، فللهند دور لتلعبه مع مثقفي الخليج وتجار الخليج في ذلك الوقت. تذكروا اين ولد المرحوم ابراهيم العريض وكيف ان هذا سيقرر فيما بعد مصير العريض وتجربته الفريدة في الكتابة باربع لغات على الاقل وسيحافظ على مسافة واضحة بينه وبين اجيال من المثقفين والادباء تعاقبت بعده. واذ عوقب مؤسسو واعضاء النادي الادبي فيما بعد بطرق شتى حيث نفي الشيخ ابراهيم الى الصخير وغرم خمس روبيات وتمت محاربة الزايد في رزقه، فإن اكثر ما سيلفت انتباهنا هنا ان جريرتهم لم تكن معاداة الانجليز بقدر ما كانت تلك الصلة المفتوحة مع المحيط العربي. أي احساسهم القومي والتعامل مع المشكل الوطني في البحرين ضمن رؤية قومية تحررية تشمل البلدان العربية كلها. لقد كان مرد خطورة هؤلاء بالنسبة لسلطات الحماية هو مفهوم جديد وخطر: تكريس التضامن القومي كمحرك اساسي لشعور وطني يتنامى في الجزيرة. هذا يعني من بين معان اخرى، ان البحرينيين لا يتعاملون مع قضيتهم الوطنية الا ضمن اطار قومي اشمل. بهذا المعنى تصبح جزيرة صغيرة مثل البحرين بسكان بالكاد يصلون الى 100 ألف وقتذاك مصدر ازعاج كبير. السبب انها غدت حجرا في رقعة الدومينو، فإن خرج المتظاهرون في القاهرة أو عدن أو بغداد أو حتى دمشق وبيروت والجزائر وفاس، سيتردد الصدى في البحرين. ولم تأت الخمسينات الا وكان السنة يقدمون البرهان على حسهم الوطني: هيئة الاتحاد الوطني والتفاصيل كافية للاستدلال: مؤتمر في سنابس وآخر في المحرق، مناصفة في القيادة واحياء المناسبات الدينية بشكل مشترك، زيارات في الحسينيات والمساجد بطريقة تذكرنا بثورة العشرين في العراق. لقد ولدت الهيئة كمقاربة ذكية للغاية على ما كان قد سبقها: صدامات طائفية بين السنة والشيعة. لكن العراق يستعاد اليوم على نحو آخر كمشروع للتذابح الاهلي المقنن "حتى الان على الاقل". ومع صعود المد القومي، توج البحرينيون نضالهم الوطني ضد سلطات الحماية بصيغة اخرى لاطائفية: جبهة القوى القومية "القوميين العرب والبعث" وجبهة القوى التقدمية "جبهة التحرير الوطني". تذكروا الشهداء الذين سقطوا بالرصاص انذاك ودققوا إن شئتم في الاسماء والمدن والقرى: المنامة، المحرق الديه، النويدرات. قلت "توج البحرينيون" ولم اقل توج السنة والفارق جلي وواضح، وفيما خص السنة هنا "بمنطق الطوائف الذي اجبرنا على استخدامه" فإن الاستنتاج واضح للغاية. لكن لان تاريخنا حلقات مقطوعة الصلة دوما، لم يبق من تلك اللاطائفية أي ارث تتكئ عليه تيارات اليوم السياسية سوى النوستالجيا. عند منعطف الثمانينات دق الجرس وتغيرت قواعد اللعبة، فلقد كان موسم العودة للدين للشيعة والسنة على حد سواء بشكل متساوق تاريخيا: انتصار الثورة الايرانية عام 1979 وبدء الجهاد الافغاني في العام نفسه. على الذين امتلأوا حماسا لقيادة لواء السياسة من عمامة الدين في تلك الفترة من السنة والشيعة على حد سواء ان يدخلوا في طور المراجعة . ان يسألوا انفسهم عما اذا كان ما دشنوه في ذلك الوقت صوابا. فهاهم يرون النتيجة: الشيعة في مقابل السنة أو العكس والمواطن مفردة تصلح للاوراق الرسمية الحكومية فقط لانها جردت من معناها الاهم. عبث بإرث السنة مثلما ان الشيعة باتوا يملكون تقسيما حديديا لهذا الفضاء الصغير: شيعة وسنة فحسب. وهاهي التحية ترد بافضل منها: سنة وشيعة. عبث يوجب علي تقديم بعض التوضيحات الضرورية منعا للالتباس كأن اقول انني سني شافعي مولود في المحرق ومتزوج من شيعية من مقلدي السيد السيستاني من مواليد حي المشبر في المنامة. لعل هذا يستثير فضولكم قليلا لكي تروا الارث الذي يتم هدمه بدأب ومثابرة منذ ثلاث سنوات "بل منذ عقدين واكثر" وباجماع وطني لا مثيل له بين السنة والشيعة... لا بل بين الشيعة والسنة
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ