العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ

الغلاء وتباشير الفقر

منى عباس فضل comments [at] alwasatnews.com

كاتبة بحرينية

يبدو أن استهتار الناس بأنفسهم كمستهلكين بلغ هذه الأيام أوجه، تماما كما هو استهتار التجار وأصحاب المال والأعمال، والحكومة بأجهزتها الإدارية، وذلك لأسباب عدة. فكلما وليت وجهك، صدمتك طوابير الزبائن المشترين واكتظاظ "البرادات" وأسواق المواد الغذائية، فبحجة "شهر الصيام"، صارت الديرة "حالتها حالة"، كأنها مقبلة على حرب ضروس سيعقبها زمن مجاعة، أو أنها تنتقم من نفسها لأمر ما. كتمت امتعاضي في السر حينما سألت البائع الهندي عن عدم توافر جوز "مكسر - فله"، إذ رد قائلا: "ماما، كل شيء خلص، ما فيه إلا الجوز مع قشر". سألته: "والعمل"؟ رد: "ماما، انتي ودي البيت وقشري". اشتريت منه على مضض كمية بسيطة، وأنا أفكر كيف سأضيع وقتي هدرا في التكسير والتقشير، نسيت أن الشغالة هي من سيتكفل بعمل اللازم، على رغم أن وقتها هي الأخرى ثمين، تماما كما بقية الشغالات والطباخين هذه الأيام، فقيمة أوقاتهم بلغت قيمة الذهب الأسود، والسبب كما تدركون، قضاء جل ساعات النهار في المطابخ، لتحضير أطباق الإفطار و"الغبقات" وما لذ وطاب. خبير اقتصادي ومنذ مدة، يلوح لي بإشاراته القلقة ووجهة نظره التحليلية لواقعنا الاقتصادي، فكلما التقاني ركز على توصيل رسالته بشأن المخاطر الاقتصادية الدائرة في السوق المحلية خصوصا والخليجي عموما، أدرك طبعا ماهية رسالته، وإشاراته لاريب تعبر عن قلق مواطن مسئول ويستشعر الخطر. وهو يصيب كبد الحقيقة، بشأن ما يتناوله عن ظاهرة ارتفاع الأسعار، ولاسيما السلع الغذائية والمواد الاستهلاكية ومواد البناء والتشييد والنقل والخدمات الأخرى وغيرها، فحسبما يراه أن ذلك سيؤدي في الأخير إلى رفع معدلات حالات الفقر واستشرائه، ويسبب الأزمات وانعدام الاستقرار في الأيام المقبلة. الجميع على علم بارتفاع أسعار النفط في بعض الدول الخليجية حديثا، والتي وصل بعضها إلى نسبة 33 في المئة من سعره السائد، إضافة إلى قيام تجار السوق ومحتكريها بمبادرتهم الفردية ومن دون إحساس بالمسئولية برفع أسعار المواد والسلع إجمالا. هناك قد لا يتأثر المواطن الذي يمثل 18 في المئة من التعداد السكاني بالنسبة للوافدين والأجانب، وقد تستطيع خزانة الدولة وجيوبها سد النقص والعجوزات المالية هنا وهناك - اللهم لا حسد - الوافد والأجنبي هو من سيتحمل تبعات الخلل الاقتصادي. الدول المجاورة بصراحة، ليس لديهم أفواه معوزة كالتي عندنا، فواقع البحرين مغاير ومختلف وأي إجراء من هذا القبيل سيؤدي إلى وقوع المصيبة تلو المصيبة على رؤوس المواطنين قبل غيرهم. فمنذ الإعلان عن قرار زيادة الرواتب والأجور لموظفي القطاع الحكومي على الدرجات الاعتيادية، وكاتبة السطور، تضع يدا على القلب وأخرى على الرأس، لأنها تدرك أن هذه الزيادة مصطنعة، وستؤدي ميكانيكيا إلى زيادة في ارتفاع الأسعار، بمعنى انه لا قيمة مضافة ستذهب إلى جيب المواطن المستهلك ولا يحزنون، هذا مع الأخذ بالاعتبار الارتفاع المستمر وبسرعة قياسية للأسعار الذي بدأ منذ مدة. عليكم بمراقبة أسعار ما تشترون وتستهلكون من اليوم وصاعدا. وأيضا ترقبوا إطلالة المارد الوحش الذي اسمه "الفقر"، وبحلة جديدة على المسرح وفي زمن قصير، الأمر الذي سيؤدي إلى تقليص فئات وشرائح الطبقة الوسطى، ويدفع بها إلى المستويات الدنيا، ومنها إلى الشارع. هل نحن نبالغ؟ قطعا لا! والخوف كل الخوف من تكرار تجربة السبعينات في القرن الماضي، حينما رفعت الحكومة الأجور والرواتب وتوالى ارتفاع الأسعار، والقطاع الخاص كعادته وبسلوكه الأناني وضيق أفقه، لم يبادر بفعل ما يجب القيام به. والنتيجة، حدث ما حدث! تذكروا ذلك جيدا، فللتاريخ دوما شواهد وقرائن، يبرزها الغضب والجوع والعوز، وما الجوع إلا أبوالكفار. يشير منسق برنامج الأمم المتحدة لمكافحة الفقر في بيروت، أديب نعمة، إلى وجود 8 تحديات رئيسية تواجه مشروع التنمية والتطور الحضاري لمجتمعاتنا، وهي ذات أبعاد اقتصادية واجتماعية وسياسية ثقافية في آن. ضعف الديمقراطية كان من بين أهم تلك التحديات، وعلى الدرجة ذاتها، جاءت مشكلة الفقر، والتفاوت في توزيع الثروة، وتدهور شروط السكن وانتشار الأمية وعدم كفاية الرعاية الصحية، وأنظمة الحماية والتأمين الاجتماعي، ومشكلات التفكك الاجتماعي. المحامية زينات المنصوري بدورها تشير في مقال لها إلى خطورة آثار ارتفاع الأسعار، التي يكمن خلفها خلل في إدارة الموارد، وفي السياسة الاقتصادية المعتمدة، ومشروعات الحكومة والقطاع الخاص. هذه المشروعات التي لا تعني الغالبية من فئات المجتمع وليست موجهة إليهم، ولا تستطيع هذه الغالبية التمتع بها، والنتيجة، زيادة في حجم الهوة ما بين فئات وطبقات المجتمع، ما يعكس آثاره على وضع البلد واستقراره. هذه الهوة كما ترى تزيد من عرض سلع وخدمات يعجز المواطن العادي والبسيط من الحصول على جزء منها، ولا يمكن لأي ممن يقوم بتنفيذها، التمتع بها، وهذا بالضبط ما يزيد من الشعور بالفقر والحرمان. إذا، لن يختلف اثنان بأن الفقر والتفاوت الطبقي يهدد مشروعات التنمية، والأمن والاستقرار الاجتماعي، وأيضا لن يختلفا بشأن مسئولية الدولة والقطاع الخاص تجاهه، بيد أن الجميع يدرك أيضا الخلل البارز في سلوك المواطن الاستهلاكي، وما يشكله من عامل يزيد من صعوبة الوضع، فالهم الطاغي لديه هو المزيد من الاستهلاك وشراء الكماليات، والدخول في مضاربات وهمية في أسواق المال، تلك التي تتم أحيانا بمبالغ مقترضة من المصارف وبفوائد عالية تضع أعباء ثقيلة على موازنته وترفع من نسب مديونيته باستمرار. إنها فوضى استهلاكية تطال كل مظاهر الحياة، من أكل وشرب ولباس وسفر، وشراء سيارات وتعليم... الخ، لا، بل يتعداها الأمر إلى الإغراق في استهلاك صحة البدن وعافيته، ونسب الإصابة بالأمراض المزمنة من سكر وتصلب شرايين أو سرطانات، واستشرائها على رغم تحذيرات الأطباء المستمرة خير شاهد ودليل، وكل برامج الوقاية والدورات ومؤتمرات الصحة والتغذية أو برامج التوعية لتوضيح سوء وخطأ هذا السلوك الاستهلاكي لم تأت بفائدة تذكر، كما لم يؤثر استحضار وتمثل المبادئ السماوية السمحاء التي تحث الإنسان على القناعة والاكتفاء بالقليل، ولا اختلاء الجيوب واللجوء إلى البطاقات الائتمانية والقروض المتزايدة من المصارف والعجز عن السداد وما يفرزه من مشكلات قضائية، كل ذلك لم يفلح أو يغير من واقع الأمر. والطوابير لاتزال ممتدة، وحمى الشراء في تزايد... يطهون ويذهب بعضه للبطون لكي يزيد من تكرشها، أو يلقى ببعضها الآخر في الزبالة للقطط والكلاب، أو يعاد تدويره كزبالة، لا أكثر ولا أقل، بسبب إصابة القطط والكلاب أيضا بالتخمة! لهذا وذاك، فإن ارتفاع الأسعار وشبح الفقر، قادم، قادم لا محالة، إلا إذا عملت الحكومة، وأصدقاؤها التجار وأصحاب المال والأعمال على إثبات غير ذلك. فهي - أي الحكومة - مطالبة بإصلاح الخلل في نظامها الاقتصادي وفي القوانين وإجراءاتها التنفيذية، إضافة إلى دعم السلع الاستهلاكية، ورفع مستوى الرقابة على العمليات التجارية "العرض والطلب"، وأسعار السوق وضبطها. فاستمرار الوضع الحالي، له كلفة سياسية لابد من حسابها من قبل من بيده الحل والربط. وتاريخ البحرين حافل ويضج بالعبر لمن يريد أن يعتبر، بدءا من الحكومة، وصولا إلى القطاع الخاص، نزولا إلى المواطن المسئول عن سوء سلوكه الاستهلاكي. فالكل بالمحصلة معني بالإجابة عن السؤال: إلى أين المطاف؟ والكل هنا تعني الكل! * كاتبة بحرينية

إقرأ أيضا لـ "منى عباس فضل"

العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً