ما أن تم إعلان الأمر الملكي بتعيين تركي بن خالد السديري رئيسا بمرتبة وزير لهيئة حقوق الإنسان حتى بدت ردود الفعل تتباين داخليا وخارجيا، إقليميا ودوليا، قانونيا وحقوقيا في أروقة مختلف اللجان والمنظمات المهتمة بحقوق الإنسان. زوايا كثيرة ثقافية وغيرها أطلت منها الآراء وردود الفعل المتباينة، المعبرة عن القبول أحيانا والتوقف في أحيان أخرى. ومع أن سجية كل جديد أن يجتذب المتابعين ويثير مكنونات نفوسهم، فإن الانتظار الطويل لمؤسسة رسمية تعنى بحقوق الإنسان في المملكة العربية السعودية أجبر الاعناق على الالتفات لمتابعة هذا الوليد الجديد. لقد توقعه البعض وليدا متأمركا ذا عينين خضراوين وشعرا يترامى على الكتفين، وفضله آخرون مستقلا وبعيدا عن ملامح الوالدين كي يتمكن من مواجهة ضغوطهما كما في قوله تعالى "وان جاهداك لتشرك بي ما ليس لك به علم فلا تطعهما"، لكنه ولد مؤزرا حاملا لجميع الصفات والاستعدادات التي تؤكد نموه نموا مسايرا لما هو قائم، ومتجاوبا مع المألوف. إن غالبية المنظمات والهيئات واللجان الحقوقية في العالم ولدت على أساس المعارضة مع الأنظمة القائمة واكتسبت شعبيتها من الضدية والمناكفة بينها وبين الرسمي الذي يسير الأمور العامة، ويتحكم في الكثير من تفاصيل الحياة، وتبعا لذلك قد يقهر بقوته وهيمنته الإنسان ويعتدي على بعض حقوقه ومصالحه، لكن هذه الغلبة لا تؤسس إلى استفراد وأوحدية هذا النمط، فلنا أن نتأمل الخير في أنماط أخرى قد تكون الظروف القائمة لا تقبل إلا بها، ولا ترتضي سواها. ليس مهما في هذه المرحلة أن نتفاصل في هذا المنتج الجديد إن كان معارضا أو متوافقا ومستولدا من الرحم الكبير نفسه، فما يعنينا هو المتابعة والملاحظة لمدى الجدية التي تتابع بها هذه الهيئة أكبر وأقدس خلق كرمه الله سبحانه وتعالى وهو الإنسان "ولقد كرمنا بني آدم"، ومدى الشفافية والوضوح التي تتعامل بها مع قضايا المجتمع وحقوق الإنسان، ثم ما وراء ذلك من خطاب تقدمه للرأي العام. أحب الإشارة إلى أن المعارضة في هذا الأمر وغيره ليست مطلبا بذاته، وكل من يفترضها ويشير إليها، فهو إنما يهمس عن بعد خوفا ووجلا من ابتلاع المضمون الحقيقي لأمثال هذه الهيئات، وتجويف داخلها لتصبح مليئة بالزبد وخالية من الاهتمامات الحقيقية التي وجدت من أجلها. هذا الخوف له ما يبرره لأن هذه الهيئات في وضعها الأجوف التعيس يمكن أن تتحول إلى أخطر وزارة ودائرة تضطهد الإنسان وتبرر الاعتداء عليه، خصوصا إذا رفعت أمام العالم رايتها البيضاء الدالة على الطهر والنقاء من حماقات اضطهاد الإنسان وتعذيبه والنيل من كرامته. أما الأرضية الخصبة والاستعداد الذي توفره هكذا ولادات، والذي أشرنا إليه بالمسايرة لما هو قائم، وتبرير ما هو مألوف والتغافل عنه أحيانا، فيمكن معاندته بمجموعة من الأمور الضرورية لنجاح هذا العمل المقدس. أولا: الشجاعة، فوزير هيئة حقوق الإنسان تركي بن خالد السديري مسئول أمام الله والملك والمواطنين جميعا عن حماية حقوقنا من أي اعتداء أو إهانة قد تسلطها علينا بقية الوزارات والدوائر الرسمية وغير الرسمية، مهما كان لها من نفوذ وامتداد على الصعيد الرسمي والشعبي. الشجاعة هنا مطلوبة لأن المنازلة والصرخة والراية المرفوعة لحقوق الإنسان ستكون أمام المقتدرين والمتمكنين من لي الأذرع وفتل الاعناق، الذين ربما تمكنهم مواقعهم من الاستفادة والتسخير للكثير من الإمكانات. ثانيا: المكاشفة والإعلان على الملأ، فالكثير من الأشياء نعاملها كما نتعامل مع مرض الإيدز الذي يخفيه المرضى خجلا، باعتبار أن الراسخ في الأذهان أنه لا يأتي إلا عن طريق الفاحشة والعياذ بالله، ما اضطر أعدادا من المصابين إلى إخفاء المرض وعدم البحث عن العلاج المناسب. ليس عيبا أن تنتهك حقوق الإنسان في بلد ما وان كان شعاره دينيا وإسلاميا، بل العيب هو التستر والخرس أمام هذا الخلل والاعتداء، فالسكوت على انتهاك حق من حقوق الإنسان هو الذي يسهل تكراره ويجرئ الآخرين على الاقتراب منه. إن أرقى الدول التي تتفاخر بحقوق الإنسان، لا نشك أن الإنسان يعيش فيها معاناة كبيرة ومؤلمة على هذا الصعيد، لكنها تملك رصيدا مهما صدرها في قوائم المدافعين عن حقوق الإنسان، يتجلى ذلك الرصيد في أن مؤسساتها الإنسانية لا تتجاهل الانتهاكات، بل تتابعها وتتحراها وتجعل مرتكبيها أمام العدالة وجها لوجه، بعد أن تسقط عنهم هالة المكانة والمنصب الذي يحتمون به. ثالثا: الإنصاف والعدل بين أبناء الوطن الواحد، خصوصا في بلد تتعدد فيه الأطياف والألوان تبعا لتعدد التراث الذي يقف وراء هذا الثراء والتنوع الاثني والفكري والثقافي. ما يفترض في أمثال هذه الهيئة هو أن يكون النظر إلى الإنسان وحقوقه فوق كل هذه التباينات والاختلافات، كي يمكن لهذه الهيئة أن تقف موقف الحياد العلمي النظيف، فتكسب ثقة الوطن كله، وتكون ملاذا لكل المواطنين بلا هواجس ولا أوهام أو حواجز. وفي ظني فإن الإنسانية هي الموقع الأعلى الذي يسبق كل التصنيفات الطارئة على الإنسان، وما يؤمل من الوزير هو أن يكون في مستوى الأبوة للجميع كي يتمكن من إنصاف بعضهم من بعض إذا ما كانت هناك حاجة للوقوف على أي أمر تستوجب الضرورة فيه رأيا للهيئة. ختاما... كل خطوة إلى الأمام وان كانت في غير مستوى الطموح لابد من تشجيعها والوقوف منها موقفا إيجابيا عسى الأيام أن تكشف لنا من خيرها الكثير الذي مازلنا نأمله. * كاتب وعالم دين من المملكة العربية السعودية
إقرأ أيضا لـ "الشيخ محمد الصفار"العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ