العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ

قلب الدين إلى عادات اجتماعية

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

ليس سرا أن الأديان، بتعاليمها وأوامرها ونواهيها، تنقلب مع مرور الوقت عند البشر إلى عادات اجتماعية. شيئا فشيئا ينسى الناس الرسالة الإلهية ويغلبهم التاريخ. لا يوجد أوضح مثل على هذه الظاهرة أكثر من تعامل المسلمين مع شهر رمضان المبارك، فالأصل في صيام هذا الشهر هو تربية الفرد على الصبر والانضباط والتعود على تنقية أفكاره من عناصر الانحطاط والسلبية وسيطرة الغرائز وعلى التضامن مع الآخرين. إنها عملية روحية رمزية فردية وجدت في كل الأديان لكنها وصلت إلى أوجها وشموليتها وصفائها في الإسلام. لكن في الإسلام هي أيضا عملية تنظيمية لكل نشاطات المجتمع الثقافية والاقتصادية والاجتماعية ليسموا إلى المستويات القيمية العليا وتجنب الرخص والابتذال. إن القضية بكاملها هي تعاليم إلهية لتدريب الناس على ممارسات جسدية وفكرية وروحية وأخلاقية صارمة لمدة شهر ولإعانتهم على تنفيذ تلك الممارسة من خلال بناء محيط اجتماعي مسهل ومساعد. منذ زمن طويل عرف الحكماء الروحيون في شرق آسيا أن أهم مدخل لتوازن الشخصية الإنسانية هو العقل الهادئ. ولا يمكن للعقل أن يكون هادئا وكفؤا وفرحا إلا إذا ملأه الإنسان بالأفكار الإيجابية وأفرغه من الأفكار السلبية. ولما كان العقل لا يحمل في الوقت نفسه واللحظة ذاتها إلا فكرة واحدة، فإن دخول الفكرة الإيجابية تطرد في الحال أية فكرة سلبية كانت موجودة والعكس صحيح. إن إدخال الأفكار الإيجابية من مثل الحب والتسامح والعفة والتمسك بقيم الفضيلة والتعاضد مع الآخرين يخرج الأفكار السلبية من مثل الحقد والتعصب والتعالي والأنانية والإفراط في الملذات. وعرف أولئك الحكماء أن البساطة في الغذاء والابتعاد عن الأكلات المبالغ في حجمها وتنوعها التذوقي والصوم بين الحين والآخر هما مدخلان جسديان مساعدان لتنظيم ذلك العقل. وعرف أولئك الحكماء أيضا أن فترات الهدوء التام، من مثل الانغماس في صلاة خاشعة، تؤدي إلى القدرة على تركيز الأفكار المطلوبة في العقل المضطرب المليء بالصراعات الداخلية. ولا تحتاج جميع هذه الممارسات إلا بضعة أسابيع لتصبح عادة راسخة تؤتي ثمارها الإيجابية. إن الحكمة الإلهية اختصرت كل تلك التجربة الإنسانية الطويلة الأمد الضاربة في أعماق التاريخ في عبادة فذة هي صيام شهر رمضان. لكن العادات الاجتماعية والصفات الشخصية التاريخية - الثقافية للإنسان العربي المسلم، ممثلة في الفردية الأنانية المفرطة وحب المظهرية وسوء الفهم لمعنى الكرم وانعدام للذوق الحضاري وغيرها، فعلت فعلها في تشويه المقاصد الإلهية وإعاقة نجاحها. فعلى مستوى الفرد يبتذل الجسد الذي يصوم في النهار ويصاب بالتخمة في الليل، ويبتذل الفكر عندما ينقلب الشهر من ممارسة معيشة البساطة والتواضع والإقلال من الرغبات الحسية إلى شهر ممارسة شنيعة للإسراف والتبذير في كل شيء، وتبتذل الأخلاق عندما يعود الفرد بعد شهر من الصيام إلى كل عاداته السلبية السابقة التي قصد مشرع الصيام أن يطهره منها، وتبتذل الروح عندما تنقلب الحياة إلى هرج ومرج ليل نهار، وعلى مستوى المجتمع يبتذل منطق الاقتصاد عندما يستهلك المجتمع في شهر رمضان أضعاف ما يستهلكه في شهور السنة الأخرى. في منطقة الخليج، حيث تتركز ثروة النفط الهائلة، يصبح سوء الفهم وتصبح سوء الممارسة المذكورتان في أوج تألقهما. للمفكر الكاتب سيدني سميث مقولة مفادها "أن الفترات المقدسة يمارسها الجميع: الأغنياء يحتلفون والفقراء يصومون". وهو طبعا يشير إلى المقدس في الديانة المسيحية. وللمفكر الفرنسي الشهير روسو مقولة هي ان "البذخ إما أن يأتي من الغنى أو الثروة أو أن التعود على عيشة يجعل الغنى والثروة ضروريين". في بلاد العرب والإسلام تتداخل المقولتان بشكل مفجع في شهر رمضان في صورة احتفالات لا معنى لها وتبذير لا مبرر له وبذخ لا ضوابط له. هل هذا ما أراده الله؟ * كاتب ووزير بحريني سابق. والمقال ينشر بالتزامن، مع "الخليج" الإماراتية

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 1128 - الجمعة 07 أكتوبر 2005م الموافق 04 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً