العدد 1127 - الخميس 06 أكتوبر 2005م الموافق 03 رمضان 1426هـ

الظلم العالمي على مستوى محاكمات الدول والأشخاص

محمد حسين فضل الله:

السيد محمد حسين فضل الله comments [at] alwasatnews.com

تحدث السيدمحمد حسين فضل الله عن الظلم العالمي على مستوى محاكمات الأفراد والدول التي لا تخضع للسياسة الأميركية، مشيرا إلى أن الخطورة تكمن في خضوع الكثير ممن هم في الوسط الديني والسياسي لهذه اللعبة، ما يستدعي عملية جراحية على مستوى تغيير الذهنية. وأشار إلى تدخل استخباري في تركيب عناصر الإدانة بعيدا عن الصدقية كما في تلفيق الأدلة في بعض البلدان الغربية من خلال ما تصنعه الاستخبارات من وقائع وهمية، كما حصل من محاكمة تيسير علوني في إسبانيا. وهاجم نظام المحلفين الأميركي، مشيرا إلى أن الإسلام يمنع من ليسوا أهلا للاختصاص أن يتصدوا لهذه العملية في الحكم بين الناس. جاء ذلك في سياق رده على سؤال في ندوته الأسبوعية بشأن نظرة الإسلام إلى دور القضاء ومهمة القاضي في الحياة العامة، فأجاب بما يأتي: أولى الإسلام القضاء عناية كبيرة بالنظر إلى خطورة هذا المنصب ودوره في حفظ النظام العام للحياة الإنسانية، على المستوى الاجتماعي والسياسي والاقتصادي، إذ لا يمكن أن تستقر الحياة من دون نظام قضائي يرتكز على العدل، ويهدف إلى إحقاق الحق وإنصاف المظلوم والاقتصاص من الظالم وإعطاء كل ذي حق حقه. ولهذا، أنيط هذا المنصب بالأنبياء بالدرجة الأساس: "يا داوود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق" "ص: 26"، فهم الأجدر للقيام بأعباء هذه المهمة الكبرى. وللنظام القضائي خصوصيته المميزة في كونه يمثل الناظم العام للأنظمة الأخرى، وفي هذا السياق، وضع الإسلام مجموعة من الضوابط التي تبقي للقضاء فاعليته وتحفظ نزاهته، منها ما يرتبط بشخصية القاضي نفسه لجهة عدالته الذاتية واستقامته، ومنها ما يرتبط بالشهود، إذ توعد من يشهد الزور بالعقاب، وفي الوقت نفسه ركز على دراسة شخصياتهم والتأكد من شهاداتهم، كما أن شرطي العدالة والنزاهة في القاضي يستدعيان الابتعاد عن كل المؤثرات والإغراءات، وإلا فقد عدالته وأصبح محل اتهام في نزاهته. ولا يجوز الإسلام لمن يفقد صفتي التقوى والعلم أن يتصدى لهذه المهمة الجليلة التي لا يتصدى لها "إلا نبي أو وصي نبي أو شقي"، كما جاء في بعض الروايات. ومن المؤسف أن ينظر البعض إلى هذا المنصب على أنه مجرد وظيفة يحسن بها وضعه الاجتماعي أو المادي أو يوسع من خلالهما دائرة نفوذه وامتيازاته الاجتماعية وغيرها. ومن الضوابط الأخرى ما يرتبط بإدارة العملية القضائية لجهة وسائل الإثبات فيها، إذ لا يجوز اعتماد الوسائل الظنية التي لا تغني عن الحق شيئا، فضلا عن الاحتمالات الموهومة، ولابد من أن تكون الحجة دامغة والأدلة واضحة، وعلى القاضي أن يجرد نوازعه الذاتية عند ملاحظة الأدلة، لأن حكمه يشكل إدانة كبرى على المستوى المادي والمعنوي للمتهم، ما يفرض عليه التأني في دراسة الأدلة حتى لا يقع في ظلم أحد، فيرتكب بذلك جريمة قد لا تقل فداحة وخطورة عن الجريمة نفسها التي يتولى التحقيق فيها، لأن جريمته لا تسيء فقط إلى المتهم أو المشتبه به، بل تسيء إلى النظام القضائي نفسه وتجعله محل اتهام وشبهة من الناس. وسعيا منه لإبعاد القضاء عن أي شبهة، أطلق الإسلام منذ العصر الإسلامي الأول النظام القضائي من أسر السلطة السياسية، عندما أكد الفصل بين السلطات، واعتبر أن من حق القاضي أن يحاكم كل الناس ابتداء من رأس السلطة إلى ما دون ذلك. وضرب الإمام علي "ع" المثل بذلك من نفسه عندما جلس ليتحاكم مع يهودي عند قاضيه شريح. وهكذا حمى الإسلام القاضي من أي مؤثرات أو شبهات مادية، قد تسيء إلى صفاء العملية القضائية ونقائها، فحرم عليه حتى أخذ الهدية من المتحاكمين فضلا عن الرشوة، وكره له مباشرة الشراء من السوق خوفا من محاباته والتزلف له. وفي المقابل كفل له من بيت المال الحياة الكريمة التي تغنيه عن مد يده للناس. وقد سبق علي "ع" عصره عندما أوصى بضرورة التوسعة المادية على القاضي للغاية المذكورة، فقال لعامله على مصر، مالك الأشتر: "وأفسح له "القاضي" في البذل بما يزيح علته وتقل معه حاجته إلى الناس". إن الإسلام يمنع من ليسوا أهلا للاختصاص أن يتصدوا لهذه العملية، ولذلك فإننا نرسم علامة استفهام كبيرة على ما يسمى نظام المحلفين الشائع في الولايات المتحدة، للشك في صدقيته من جهة، ولعدم وجود ضمانات تحمي هؤلاء المحلفين من المؤثرات العاطفية، ما لا يساهم في تحقيق العدل الذي هو غاية العملية القضائية. إن المشكلة في كثير من المحاكمات التي تجري في أكثر من بلد غربي، سواء في أميركا أو في أوروبا في هذه الأيام، أنها لا تنطلق في مناخ قضائي سليم، إذ تصدر الأحكام بالإدانة السريعة، بعيدا عن المعطيات الدامغة، وخصوصا إذا كان المتهم مسلما أو كانت القضية تخدم الجو العام الذي تصنعه وسائل الإعلام أو السياسة، بما يخدم مشروعاتها وأوضاعها. وللأسف، فإن ذلك ينعكس أيضا على كثير من المحاكمات أو التحقيقات التي تجري في بلداننا والتي يطغى الجانب السياسي على بعضها، سواء في التوجيه أو في حيثيات الاتهام أو في طريقة سير المحاكمات والتحقيقات، إذ يعرف البعض بنتائجها قبل أن تحصل أو يتحول بعض الجسم السياسي أو الإعلامي إلى قضاة يطلقون الأحكام ويتحركون في المرافعات لحساب مناخات خارجية أو في ظل ضغوط سياسية أو عاطفية أو نفسية. إننا نشهد في هذه الأيام تدخلا استخباريا في تركيب عناصر الإدانة، بعيدا عن كل عوامل الصدقية، كما نشهد في كثير من البلدان الغربية تلفيقا للأدلة من خلال ما تصنعه الاستخبارات هناك من وقائع وهمية، الأمر الذي جعل القضاء يخضع في كثير من الأحيان للأجهزة الأمنية، وليس العكس. وقد أدت القوانين المستحدثة - التي أعطت للأجهزة الاستخبارية والأمن كل هذه الصلاحيات - إلى فقدان الجسم القضائي هناك الكثير من صدقيته. وثمة دلائل ليس أقلها ما حصل بالنسبة إلى الصحافي تيسير علوني في إسبانيا، وبعض المحاكمات والتوقيفات التي تستند إلى قوانين مكافحة الإرهاب في أوروبا أو أميركا. كما نشهد ظلما فاضحا على مستوى محاكمات الأفراد نشهد في الوقت عينه ظلما في محاكمة الدول التي لا تخضع للسياسة الأميركية، إذ يصار إلى إدخالها في محور الشر أو التعبير عنها بـ "الدول المارقة" على رغم التزامها بالقوانين والمعاهدات الدولية، ولكن مشكلتها أنها لم تسلك الطريق السياسي والأمني الذي رسمته أميركا، وهذا ما يحصل مع إيران وسورية. إن في هذا العالم ظلما كبيرا يتمثل في استخدام القانون الدولي لحساب دول معينة، بينما تبقى دول كثيرة بعيدة عن سطوة الملاحقة وهي تضرب بهذا القانون عرض الحائط، كما يجري بالنسبة إلى "إسرائيل" التي تنتهك كل القوانين السياسية والأمنية، وتعلن ذلك من خلال مسئوليها من على منبر الأمم المتحدة، من دون أن يتقدم المجتمع الدولي لمحاكمتها. وأميركا نفسها التي يقول وزير خارجيتها السابق كولن باول إنه يخجل من تقريره في الأمم المتحدة بشأن أسلحة الدمار الشامل العراقية، تواصل حربها وأكاذيبها الكبرى على المنطقة من دون أن يتصدى المجتمع الدولي أو الأمم المتحدة لها. بل إن بعض الدول الأوروبية تدخل في صفقات سياسية جديدة معها حرصا على نفوذ جديد قد تكسبه في هذا الموقع، أو على ربح سياسي أو اقتصادي يأتيها على هامش المشروع الأميركي في منطقتنا أو خارجها. إن المشكلة تكمن في هذا الصمت العالمي عن هذا الظلم، وهذه الأحكام الجائرة، وكذلك في خضوع الناس للعبة التي تصنعها الاستخبارات وأجهزة الإعلام المعادية ليحكموا على هذا الفرد أو على هذه الجهة من دون وثاقة أو تقوى، حتى وصلت المسألة إلى أن يخضع الكثير ممن هم في الوسط الديني، فضلا عن الوسط السياسي، لهذه اللعبة. ولذلك فالقضية تتطلب عملية جراحية على المستوى السياسي، وتغيير الذهنية في الواقع الاجتماعي، وتحريكا للعقل في مسألة الحكم على الأوضاع قبل أن تختلط علينا بقية الأمور، فنصبح أداة طيعة لحساب أعدائنا ومشروعاتهم العدوانية وصفقاتهم الإجرامية

إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"

العدد 1127 - الخميس 06 أكتوبر 2005م الموافق 03 رمضان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً