بين ميونيخ وبيروت خمس ساعات بالطائرة. لكن من يريد هذه الأيام معرفة ما يدور في مخيلة ديتليف ميليس القاضي الألماني الذي يترأس لجنة التحقيق المكلفة من قبل الأمم المتحدة للكشف عن الأطراف المسئولة عن أكبر جريمة اغتيال عرفها لبنان وهي اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري في فبراير/ شباط الماضي، عليه قراءة ما بين السطور التي تنشرها صحيفة "زود دويتشه" المعتبرة التي تصدر في مدينة ميونيخ. وأوفدت الصحيفة أحد أبرز مراسليها وهو توماس أفيناريوس إلى بيروت لمتابعة نشاط القاضي الألماني. يوم السبت الماضي أورد مراسل الصحيفة الألمانية من العاصمة اللبنانية نبأ سيئا من وجهة نظر معسكر الحريري والإدارة الأميركية. فقد نقل عن مصادر مقربة من ميليس قولها إن تقرير ميليس الذي تنتظره حكومة فؤاد السنيورة بفارغ الصبر قد لا يتضمن ما من شأنه أن يحدث زلزالا. واستبعدت المصادر الدولية أن يوجه التقرير اتهاما مباشرا للرئيس السوري بشار الأسد لعدم ثبوت أدلة ضده. يعتبر ما نشر في ميونيخ قبل أيام نكسة لمعسكر الحريري الذي كان يأمل أن تصدر إدانة مباشرة ضد النظام السوري إذ لا يختلف اثنان داخل هذا المعسكر على ضلوع سورية في اغتيال رئيس الوزراء السابق. منذ البداية تعين على القاضي الألماني تحمل مسئولية التحقيق في قضية شائكة معقدة لها تبعات سياسية خطيرة في منطقة الشرق الأوسط. لذلك فإن ميليس الشخص الذي يخضع لحماية أمنية مثل التي يخضع لها كبار قادة العالم. يوضح مراسل صحيفة "زود دويتشه" أن فندق "مونتي فيردي" الذي تقصده عادة نخبة مختارة من زوار لبنان، تحول منذ وصول ميليس إلى قلعة محصنة تحيط به حواجز رجال الأمن من كل صوب، إذ يجري التدقيق بالأوراق الثبوتية لكل من يقرب المكان. لم يتصور ميليس القاضي البرليني أن يصادف في حياته مثل التجربة الحالية. بتكليف من هيئة الأمم المتحدة يحقق ميليس البالغ 56 عاما من العمر في أكبر جريمة اغتيال وقعت في لبنان. فحين انفجرت قنبلة ضخمة أمام موكب الحريري في 14 فبراير الماضي ودمرته بالكامل، كان واضحا أن أيادي مريبة ترمي إلى خلط الأوراق في لبنان من جديد وأن تعوق مرحلة الوفاق بين فئات شعبه. لم تكن نتيجة عملية الاغتيال مصرع رجل مهم جدا في التاريخ الحديث لهذا البلد الذي مر في حرب أهلية استمرت 16 عاما، بل أدى الحادث إلى تغيير الخريطة السياسية في المنطقة. تحت ضغط الاتهامات التي وجهتها المعارضة اللبنانية إلى سورية اضطر الرئيس السوري بشار الأسد لسحب جنوده البالغ عددهم 14 ألف جندي من لبنان، منهيا الوجود العسكري السوري في هذا البلد الذي دام 15 عاما. منذ اغتيال الحريري يتمسك المعسكر المناهض لدمشق باتهام سورية باغتيال الحريري لكن من الناحية الرسمية ليس على الطاولة ما يدعم الاتهامات ضد دمشق وبالتالي لم تتضح هوية قتلة الحريري بعد. لهذا السبب يحقق ميليس وفريق المحققين الذي يترأسه منذ أشهر بالتعاون مع محققين لبنانيين، وتم في هذا السياق معاينة كل قطعة من ركام السيارات المدمرة وكل عينة جينية وكل بصمات الأصابع ومراجعة المكالمات الهاتفية التي جرت قبل وبعد الانفجار كما تم استجواب مجموعة من ضباط المخابرات اللبنانية والسورية ومسئولين عسكريين وسياسيين. سيتحتم على القاضي الألماني أن يضع أوراقه على الطاولة حين يسلم تقريره إلى الأمم المتحدة بتاريخ 25 أكتوبر / تشرين الأول الجاري. وتوجه ميليس إلى العاصمة النمسوية ليعد تقريره بعيدا عن المعمعة اللبنانية وينتظر العالم منه أن يجيب على أكثر من سؤال: هل سيدين الحكومة السورية بصفة رسمية أو يرمي مسئولية اغتيال الحريري على حساب عملاء في المخابرات اللبنانية والسورية؟ بمعنى آخر: هل اغتيال الحريري جريمة اقترفها عملاء في مخابرات البلدين أم أن وراءها دولة؟ ثم هل سينجح ميليس بإعداد تقرير نهائي ويطرح نتائجه أم سيطلب تمديد مهمته. كل خطوة ستصدر عن القاضي الألماني لها أبعاد بالنسبة إلى سورية ولبنان والولايات المتحدة الأميركية أيضا. الحرس الشخصي والعدد الكبير من الخبراء والمحققين الدوليين يعبر عن أهمية مهمة ميليس الذي كتب الكثير عنه حتى قبل تسلمه هذه المهمة الصعبة. فقد نظر في السابق في قضايا سلطت عليها الأضواء الدولية وأبرزها قضايا ذات علاقة بالأوضاع السياسية في منطقة الشرق الأوسط منها قضية انفجار قنبلة في مرقص "لابيل" وانفجار قنبلة في المركز الثقافي الفرنسي في برلين الشرقية كما حقق ميليس مع الإرهابي الدولي ماركوس. إنه قاض لا يهاب أحدا وقد عزز هذه السمعة في قضية المرحوم رفيق الحريري أيضا حين طلب من دون تردد من الدولة اللبنانية اعتقال ثلاثة من الجنرالات التابعين للمخابرات اللبنانية ورئيس الحرس الوطني في قصر الرئيس إميل لحود. مطبخ الشائعات في بيروت كما يشير مراسل صحيفة "زود دويتشه" يتداول هذه الأيام المقولة الآتية: ليس ميليس الرجل الوحيد فقط الذي بوسعه الكشف عن قتلة الحريري، بل مستقبل لبنان مرتبط بتقريره النهائي. ميليس نفسه يجد المقولة مبالغ بها لكنها الحقيقة. ما يمكن قوله قبل كشف تفاصيل تقرير ميليس أن قتلة الحريري نفذوا جريمتهم بطريقة تنم عن خبرتهم عدا أنها تمت بدقة عالية من دون رحمة أو أي اعتبار لمقتل عشرات الأبرياء. فقد استعان القتلة بطريقة محترفة لتعطيل جهاز التحذير الذي كان موكب الحريري يستخدمه ويعطل أجهزة الإرسال والهاتف عند مرور موكبه للوقاية من أي عمل إرهابي. على الأبعد تم تفجير السيارة المفخخة من بعيد. ثم أن ميليس استبعد أن يكون استشهادي نفذ العملية إذ لم يعثر في ركام السيارة المفخخة على أثر لمخلفات آدمية. مازال غير واضح مصير المدعو أبوعدس الذي ظهر على شريط فيديو وهو يعلن مسئوليته عن الجريمة ويعتقد ميليس أن القتلة استغلوه ثم أجهزوا عليه. كما هناك قصة مشاركة استشهادي آخر من العراق قد يكون القتلة أبلغوه أن مسئولا عراقيا كبيرا موجودا في الموكب وأنه كتب عليه أن يجهز عليه. بالنسبة إلى ميليس ليس من السهل العثور على أثر لشخص أو شخصين إذا انفجرت عبوة زنتها طن أو أكثر فكل شيء يتحول إلى رماد. وسط كل هذا الغموض يعتمد ميليس على أقوال شاهد كان عميلا للمخابرات السورية - رتبته متوسطة - غير دوره من عميل في المخابرات السورية إلى عميل في المخابرات اللبنانية. يقال إنه كان يعمل في لبنان وكان على صلة بالمتهمين اللبنانيين الأربعة. وأبلغ وزير الاتصالات اللبناني مروان حمادة والذي كان مقربا من رئيس الوزراء الراحل وينتمي للطائفة الدرزية للصحيفة الألمانية: شخص مثل رفيق الحريري لا يتعرض للاغتيال إلا بأمر من فوق. حمادة سياسي ينتمي للمعسكر المناهض لسورية ومن مصلحته أن يدين ميليس سورية. ليس حمادة وحيدا في هذا الرأي. واشنطن تتمنى الشيء نفسه لتزيد ضغطها على الرئيس الأسد. تعتبر واشنطن سورية آخر بلد يعارض طموحاتها في منطقة الشرق الأوسط. وتتهمها منذ وقت بدعم المقاومة العراقية كما ناصرت مطلب المعارضة اللبنانية حين نزل مئات الآلاف من اللبنانيين إلى شوارع بيروت احتجاجا على اغتيال الحريري وطلبوا من سورية سحب جنودها من لبنان. لكن ميليس لمح لصحيفة "زود دويتشه" بأن تقريره لن يتضمن زلزالا، أي أنه لن يحمل الحكومة السورية مسئولية اغتيال الحريري فقط لعدم توفر الأدلة الدامغة. برأي القاضي الألماني تحتاج التحقيقات للمزيد من الوقت وكل ما توافر من معلومات حتى اليوم لا يكفي لتوجيه أصابع الاتهام لجهة معينة وبالتأكيد ليس إلى سورية. السؤال الذي يطرح نفسه هل سيعكف ميليس على مواصلة التحقيقات ويطلب تمديد مهمته في لبنان أم يسلم ملف القضية للمحققين اللبنانيين كي يتابعوا العمل من النقطة التي توقف ميليس عندها لهدف حل آخر لغز؟ في لبنان من ينظر نظرة مليئة بالشك للقاضي الدولي. وقال صحافي لبناني رفض أن ينشر اسمه: ميليس منحاز ومحسوب على الأميركيين. لماذا استثنى الإسرائيليين والإسلاميين المتشددين وركز تحقيقاته منذ البداية على سورية؟ القاسم المشترك بين الحكومتين اللبنانية والسورية أنهما يريدان معرفة الحقيقة والحقيقة هي من قتل الحريري؟ لذلك تأمل الحكومتان أن يكون ميليس قد حصل على الوقت الكافي ليكشف الحقيقة
العدد 1126 - الأربعاء 05 أكتوبر 2005م الموافق 02 رمضان 1426هـ