"المسلمون في أوروبا" واحد من الكتب التي أصدرها أخيرا مركز البابطين للترجمة بالتعاون مع "دار الساقي" ضمن مشروع الترجمة الذي اطلق الخميس الماضي في بيروت، ونأخذ من الكتاب، في هذه العجالة، عنوانه وما يرمي اليه. العنوان في حد ذاته يثير الكثير من الأسئلة بشأن قوة التأثير الثقافي الإسلامي في المجتمعات الغربية، فـي المقابل بين يدي "الكراس الفكري" الذي تصدره صحيفة "الحرية" التونسية، ففي العدد 45 من هذا "الكراس" كتب فريد قطاط عن فكر هانس كونغ، هذا المفكر السويسري الأصل الذي عانى الكثير نتيجة مواقفه من الكنيسة والبابوية، وهو أسس في الستينات من القرن الماضي مركزا للبحوث بشأن التقريب بين الأديان، وعينه "البابا يوحنا الثالث والعشرون مستشارا رسميا في الشئون اللاهوتية، فساهم بدور مهم وأساسي في الأعمال التمهيدية لانعقاد مؤتمر الفاتيكان الثاني، وهو المؤتمر الذي اعترف رسميا بالدين الإسلامي إلى جانب الأديان الاخرى" "هذا ما كتبه فريد قطاط". ثمة الكثير من النشاطات التي قامت بها طائفة كبيرة من المفكرين ورجال الدين والمثقفين، ومنذ بضعة قرون، لإزالة عوامل التوتر بين الإسلام وأوروبا، ونقول أوروبا، لأن العلاقة بين الإسلام والمسيحية كدينين أكثر انسجاما وتصالحا، إلا أن العلاقة مع أوروبا والغرب عموما فيها الكثير من الالتباسات والتوترات، وهي في مجملها ناتجة من موروث ثقافي تركته حركة الصراع السياسي - الاقتصادي إبان سيطرة الفكر التوسعي الأوروبي في القرون الماضية. وإذا كانت مرحلة انكسار الدولة العربية في الاندلس حولت الصراع في بعض مراحله الى صراع ديني وقمع ثقافي لا مثيل له أدى في أوجه إلى نبذ كل ما له علاقة بالتراث الثقافي وإلى ترسيخ مصطلحات عنصرية باتت في المرحلة الراهنة من المسلمات المستخدمة حتى من قبل الذين كانوا ضحية هذا التمييز، نقول إذا كان الامر على هذا النحو فإن حركة إزالة التوتر لم تستكن منذ ذلك الزمن. المسلمون في أوروبا والغرب قوة ديموغرافية أكبر بكثير من اليهود، لكن التأثير الثقافي المسلم في الفكر والمجتمع الأوروبيين بقي محدودا جدا، وبقي المسلم محل شك حتى من خلال اندماجه في الحياة الأوروبية. وإذا كان الانبهار الثقافي المسلم والعربي بأوروبا قد أثر في انماط الحياة العربية كثيرا، إلا ان العرب والمسلمين لم يستطيعوا ترك الأثر الذي من خلاله يمكن تحييد التوتر وجعل التواصل بينهم وبين الأوروبيين صحيحا ومثمرا، ولا تعني بعض النجاحات التي تحققت في مجالات معينة بداية صحيحة لازالة التوتر، طالما انها لم تستثمر بالشكل الصحيح. اليهود في أوروبا كمجموعة ديموغرافية اقل بكثير من المسلمين، وما تعرضوا له من قمع طوال قرون أبشع بكثير مما تعرضت له أية فئة أخرى، وهم في بعض المناهج الدراسية الغربية، كانوا وحتى الستينات من القرن الماضي، موضع ازدراء وتمييز، وعلى رغم ذلك استطاعوا تحقيق مكاسب كبيرة بفضل حركتهم الثقافية وتحالفهم مع التيارات المحافظة في أوروبا والغرب عموما، وعلى رغم محافظتهم على الغيتو السكاني فإنهم انفتحوا على مختلف التيارات الثقافية وأسسوا لأنفسهم مكانة بارزة في الحركة الثقافية الأوروبية والغربية. المسلمون وعلى العكس من الطبيعة المنفتحة لدينهم، انعزلوا ثقافيا وعاشوا ضمن غيتو ثقافي فرض اعتبارهم كتلة غير مرغوب فيها نتيجة عزلتها، وهم طوال القرنين الماضيين لم يستفيدوا من حال الانفتاح الأوروبية في تأسيس حال ثقافية قادرة على التأثير في الحركة الثقافية الأوروبية، وفي أحيان كثيرة لم يعملوا على الدفاع عن المفكرين والادباء الأوروبيين الذين ساندوا قضاياهم. المسلمون في أوروبا ونتيجة كل ذلك ساعدوا التيارات المتطرفة الأوروبية على إثبات صحة أفكارها حيالهم، ما جعل الأمر يبدو في لحظة من اللحظات تحالفا غير مباشر بين الكتلة الثقافية المسلمة وبين التيارات الأوروبية المتطرفة، وأدى لاحقا إلى اندلاع كل هذا العداء الذي نراه الآن، وإلى حركة إصدار قوانين تمييز ضد المسلمين في كل أوروبا، ما يعني في نهاية المطاف إقصاء المسلمين عن كل دور ثقافي مؤثر في المستقبل، وربما فرض التحول عليهم عن أفكارهم وثقافتهم وموروثهم إلى افكار وثقافة تحدد معالمها التيارات المتطرفة التي بعضها يحكم عددا من دول أوروبا والغرب. هانس كونغ ضحية مواقفه لأنه خرق تابو تقديس البابا في كتابه الشهير "هل البابا معصوم" الصادر العام ،1971 وعلى رغم حضوره الفكري البارز في الحياة الثقافية الأوروبية فإن الحرم الديني الذي أوقع عليه في النصف الأول من سبعينات القرن الماضي جعل الكثير من الدوائر الثقافية الأوروبية تشيح بوجهها عنه، وطوال السنوات الماضية لم تستطع القوة البابوية وقف هذا الرجل عن البحث والعمل. في المقابل نرى ان الكتلة الإسلامية الأوروبية تقدم تنازلا تلو الآخر، وهي حتى الآن لم تستطع ان تؤسس مركز أبحاث يستطيع فعلا التأثير في الفكر الأوروبي. ففي الستينات والسبعينات دفعت "إسرائيل" الكثير من المال وبطريقة غير مباشرة لمراكز أبحاث عربية من أجل تكريس استخدام مصطلح "إسرائيل" مكان "الكيان الصهيوني"، وهذا أدى إلى قبول "اسرائيل" نفسيا لدى العرب، وكان يرافق ذلك حركة اتصالات سرية بين العرب والإسرائيليين، إضافة إلى العمل العسكري الذي جعل العرب يظهرون دائما بصورة المهزوم، وهم كانوا كذلك. المقارنة بين صلابة هانس كونج وبين الليونة التي تبديها الجالية المسلمة في أوروبا ربما تكون قاسية وغير منطقية بعض الشيء، لكن لابد من البحث في الأسباب التي تمنع هذه الجالية من تكوين قوة ثقافية حقيقية والخروج من الغيتو إلى فضاء التواصل الحقيقي الذي يمنع على التيارات المتطرفة الأوروبية الاستمرار في العيش على شعارات "الخطر الثقافي الإسلامي الذي يهدد أوروبا" كما تدعي هذه التيارات. * كاتب لبناني مقيم في الكويت
العدد 1125 - الثلثاء 04 أكتوبر 2005م الموافق 01 رمضان 1426هـ