أراني مختلفا مع تيارين رئيسيين يتنازعان الآن المشهد السياسي، ويحفران خنادقهما العميقة فوق حدوده، ويجران الرأي العام معهما إلى صراع كبير، وكأنهما وحدهما في الساحة. .. كل منهما يدعي أنه الحقيقة الوحيدة والاجتهاد الأصوب والأصدق والأحق... تيار يرى أن تغييرا كبيرا واصلاحا عظيما قد جرى ويجري بما يحقق الانجاز الديمقراطي، وأنه كاف وربما زائد عن الحد، يفوق قدرة ناسنا وأهلنا على استيعابه وهضمه، ومن ثم فلا مجال بعد ذلك ولا مطالب! وتيار آخر يقف على النقيض، يرى أنه لا تغيير على الاطلاق قد حدث، ولا اصلاح قد جرى، حتى أن ما جرى ما هو إلا عمليات تجميل للوجه وتحسين للصورة، تهربا من الاصلاح الديمقراطي والتغيير الجذري المطلوب! بين تيار التهويل والمبالغة، اكتفاء بما جرى حتى الآن، وبين تيار التهوين والانكار لما جرى، اعتقد أن الاجتهاد المنطقي يقول إن هناك تغييرا ما قد حدث في الفترة الأخيرة خصوصا، ولكنه تغيير يمضي ببطء، فيحاذر التقدم ويتلفت حوله باستمرار، متخوفا ومشككا في نهاية الطريق، قبل أن يضع قدمه على أوله بثبات، ويتيقن أن واقع الحال وحكم التاريخ يدفعه دفعا نحو الاقدام على الاصلاح من دون تردد، وإلا فقد ارادته هو اصلا! وهذا يعني أن التغيير الجاري الوئيد الخطو، ليس هو غاية المنى ومبلغ الأمل ونهاية المطاف، كما يدعي التيار الأول، بحيث يغلق علينا الطريق حتى قبل أن يبدأ، من ناحية،، كما أنه لا يجوز انكار أن هناك حركة في مجال التغيير، حتى لو كانت نسبية، انكارا كاملا، كما يزعم التيار الثاني من ناحية أخرى. انما نحن، بحسب اعتقادي البسيط، في مرحلة حرجة قلقة، تتصارع فيها التيارات وتتفاعل الآراء وتتعارك أو تتصادم القوى السياسية الاجتماعية الفكرية، كل نحو بلوغ هدفها بالوسيلة والفكر الذي تراه صحيحا محققا لمصالح الأمة... هي باختصار مرحلة العبور إلى شواطئ التحول الديمقراطي بشروط، بعد عقود من ضياع الرؤية وغياب البوصلة الهادية. ولكي نجادل التيارين في الأمر يجدر بنا أن نختبر معا بضع مؤشرات مهمة، برزت في الفترة الأخيرة، لنستدل هل حدث تغيير كامل أو نسبي، بطيء أم مقتحم، أم أن كل ما جرى هو مجرد تزييف وتلفيق وتزويق... دعونا نحاول إذا. أولا: لقد أدى تعديل المادة 76 من الدستور المصري لانتخاب رئيس الجمهورية بالاقتراع العام من بين عدة مرشحين، إلى توسيع وتعميق الحراك السياسي الشعبي الملحوظ، وربما جاء التعديل استجابة إلى هذا الحراك، وعلى رغم كل التحفظات التي أبديناها وغيرنا، على "الضوابط المشددة والقيود القاسية" التي وضعها ترزية القوانين لاجهاض المبدأ الرئيسي، إلا أن ما جرى قد فتح الباب أمام شرعية جديدة للحكم، تختلف عن الشرعية الموروثة منذ ثورة يوليو ،1952 إن أحاطتها الشروط والقيود يوم، فحتما ستتحرر منها غدا مهما كان عنف مقاومة أعداء الديمقراطية! ولا ينكر منكر أن هذا الحراك السياسي الواسع قد عكس فورته على عناصر وأطراف العمل العام والقوى السياسية الرسمية والشعبية بدرجات متفاوتة، مثل الأحزاب السياسية المعترف بها "نحو عشرين حزبا" ومثل النقابات المهنية "وخصوصا نقابات الصحافيين والمحامين والقضاة وهيئات التدريس بالجامعات" التي استغلت المناخ المنفتح بشكل من الأشكال، لممارسة أدوار أكثر حركية ونشاطا عادت بها إلى العمل العام والشعبي المباشر، فاكتسبت مساحة جديدة على رغم كل القيود التي تشكو منها ونشكو. وبالاضافة إلى هذه القوى المعترف بها، تحركت قوى أخرى ونزلت إلى المعترك بحيوية جديدة، هي القوى الجديدة الغاضبة والمتمردة، مثل حركة كفاية، والتجمع الوطني للتحول الديمقراطي والجبهة الوطنية للاصلاح والتغيير وصحفيون وأدباء ونساء وأطفال من أجل التغيير، فضلا عن بروز دور أكثر علانية لقوة شعبية قديمة محجوبة عن الشرعية، هي جماعة الاخوان المسلمين. وأظن أن مثل هذا الحراك يخدم الاصلاح الديمقراطي، سواء جاء نتيجة لتعديل المادة 76 من الدستور، أو جاء هذا التعديل نتيجة له... المهم أن ثمة تغيرا، ما يجري فعلا، لا يجب التهوين منه، أو التهويل له. ثانيا: يكفي هنا أن نرصد فقط مؤشرات التغيير بصرف النظر عن مدى قوته ونجاعته، ولكن علينا أساسا أن نختبر صدقية مؤشرات التغيير الجاري والمطروح بأكبر قدر من المكاشفة والمصارحة. ولنضع عاما من الآن مقياسا لصدقية هذا التغيير، ونختبره من خلال خطوات التنفيذ والممارسة العملية تجاه موضوعات جوهرية مثل: - انفتح باب الاستعداد للانتخابات البرلمانية التي ستجرى بعد أسابيع قليلة، في منافسة شرسة على شغل 444 معقدا في 222 دائرة انتخابية، وهي انتخابات ستكون شرسة في مناخ جديد التزمت فيه الدولة والرئيس مبارك شخصيا بالشفافية والنزاهة والحرية، وستخوضها الاحزاب السياسية المعارضة والمؤيدة كما هو معلن حتى الآن. وفي حين تلملم أحزاب المعارضة الرئيسية "الوفد والناصري والتجمع" قواها الأساسية، لتشكل جبهة موحدة قد تضم آخرين، ولتواجه المعركة بقوة وجرأة وتحد، حرص الحزب الوطني الحاكم صاحب السطوة، على الاستعداد الأقوى، تجنبا أو حذرا من تكرار تجربته القاسية في انتخابات العام ،2000 التي فاز فيها بنسبة 38 في المئة فقط، قبل أن يستقطب المستقلين والمطرودين والشاردين من أعضائه ليضمهم إلى غالبيته الساحقة. والمعيار المطلوب للصدقية الحقيقية هنا، ليس مجرد كيف فاز هذا الحزب أو ذاك، وبكم من المقاعد، ولكن المعيار الأهم هو كيف جرت الانتخابات وفي أي مناخ وتحت أي ظروف، لكي نختبر مدى صدقية الالتزام بإجرائها في حرية وشفافية. فإن جرت كذلك، وطبقا لهذه الشروط الدولية المتعارف عليها، وعلى نقيض ما تشكو منه الانتخابات السابقة في مصر من تزييف وتدخل وتزوير، فإن الصدقية تتحقق، لكي تؤكد صدق الالتزام بالسير قدما في طريق الاصلاح الديمقراطي. - أما الاختبار الأهم فينطبق على مدى التزام الحزب الوطني وحكومته، إذا ما فاز في الانتخابات القادمة، بتنفيذ البرنامج الانتخابي للرئيس مبارك، الذي دخل به الانتخابات الرئاسية، وقد تبناه الحزب برنامجا له في الانتخابات البرلمانية. لقد وعد برنامج الرئيس باصلاح ديمقراطي خلال فترته الرئاسية الخامسة والجديدة، يشمل حزمة اصلاحات وتغيير واسع، ابتداء بتعديلات دستورية، والغاء لقوانين وهيئات استثنائية مثل قوانين الطوارئ، والمدعي الاشتراكي، وتعديل القوانين المقيدة لحرية الصحافة والرأي والتعبير، وتطوير المنظومة الاعلامية، وغيرها بهدف "تعزيز المسيرة الديمقراطية". ووعد بتحسين أحوال المعيشة ومساندة الطبقة المتوسطة، وتوفير 4,5 ملايين فرصة عمل واستصلاح مليون فدان جديد، بهدف مواجهة الفقر والبطالة والغلاء وتدني مستوى المعيشة للشعب المصري. أي أن الهدفين الاستراتيجيين للوعود هما تحقيق الديمقراطية مع العدل الاجتماعي وعلى رغم جاذبية هذه الوعود فإن المهم هنا ونحن نتحدث عن الصدقية في التغيير والاصلاح، هو الالتزام بتنفيذ الوعود والقدرة عليها، ووضع برنامج زمني عاجل نتحاسب عليه من دون مزايدة أو ترخص. ثالثا: لا يكفي كذلك في مجال اختيار صدقية الاصلاح والتغيير الديمقراطي، أن نلقي كل العبء على الآخرين في السلطة أو في الأحزاب والهيئات وحدها، ولكن يظل على القوى الشعبية والخلايا الحية في المجتمع أعباء مضاعفة ومتزايدة في هذا المناخ الذي يجب استغلاله جيدا. وأعني أساسا أعباء المراقبة والمكاشفة والمصارحة والمحاسبة والمساءلة، تلك القيم والممارسات التي غابت طويلا لأسباب معروفة، فأفسحت المجال واسعا أمام تحكم تحالف الفساد والاستبداد وهيمنة مراكز القوى وسلطة المال الشرهة. ومن أهم أجهزة هذه المراقبة والمساءلة، البرلمان المنتخب بحرية ونظافة لتمثيل الشعب بصدق، وممارسة دوره المزدوج، تشريعيا ورقابيا، من دون الخضوع لسطوة السلطة التنفيذية كما جرى من قبل، وإلى جانبه صحافة حرة مستقلة تتخلص من قيود البيروقراطية وجمود الفكر وفقر الخيال المعرقل لممارسة دورها الحقيقي. ويأتي فوق ذلك دور منظمات المجتمع المدني الفاعلة والمتحركة، كما برز ذلك حديثا، وخصوصا دور المنظمات الحقوقية، المدافعة عن حقوق الانسان والمطالبة بإطلاق الحريات، والمراقبة لنزاهة الانتخابات، وبصرف النظر عن أي انتقاد يوجه لبعض هذه المنظمات وتحديدا التي تتلقى تمويلا أجنبيا، فإن دور المجتمع المدني وحرية حركته، أصبح مقياسا للتطور الديمقراطي في عالم اليوم، وهو الأمر الذي يجب أن نشجعه وندفع به، سلاحا من أسلحة قياس الصدقية ومراقبة التغيير. رابعا: وبفضل كل ملامح ومؤشرات هذه الحركية - الديناميكية، وفي ضوء نجاحها أو فشلها في عبور هذه الاختبارات يمكن ان تنهي مصر عاما من القلق والتوتر، من اختراق الصمت والجمود السياسي واقتحام أبواب التغيير، من الجدل والعراك حول ضرورات الاصلاح الديمقراطي ومفاهيمه وأساليبه، من الصراع المحتدم بين سلطة الدولة القابضة وبين حركة الشارع الغاضبة، لكي تدخل عاما جديدا، أظن انه سيكون عام وضوح الرؤية وتبديد الضباب الذي غطى على الاجابة الصادقة، عن سؤال جوهري ظل يتردد لسنوات طوال، وهو لماذا تخاف مصر بكل تراثها وتاريخها وحاضرها من الديمقراطية... لماذا لا تفتح الباب لتغيير واصلاح حقيقي في المنطقة العربية كلها، بعد قرون من الانغلاق والتعتيم، الذي لم يلد إلا ثنائية الفساد والاستبداد!
خير الكلام
يقول الأعشى: ما بكاء الكبير بالأطلال وسؤالي، فهل ترد سؤالي! * مدير تحرير صحيفة "الأهرام"
إقرأ أيضا لـ "صلاح الدين حافظ"العدد 1125 - الثلثاء 04 أكتوبر 2005م الموافق 01 رمضان 1426هـ