لابد أن يعي من يرتقي المنبر أن للمنبر آدابا، يجب أن يتحلى بها من يرتقي عتبته، وأن يدرك أن كل خطوة يقدمها للصعود ستكون شاهدة عليه، لأن للمنبر قدسية، ولابد أن يستشعر الخطيب أنه يلقي موعظته أمام جموع الناس من مفكرين ومعلمين ومحامين وغيرهم، وأن تكون أقواله متوافقة مع أفعاله: لا تنه عن خلق وتأتي مثله عار عليك إذا فعلت عظيم لذلك يحتار الإنسان حين يجد أقوال بعض الخطباء تتناقض مع أفعالهم من دون مراعاة لما يقولونه، وكأن الخطبة وظيفة يؤديها ثم ينسى أو يتناسى ما قاله، لذلك رغبت أن أنبه على هذا الأمر. وإني أود أن أذكر أمثلة على ذلك منها ما ذكره أحد الخطباء بتاريخ 27 أغسطس / آب 2005م إذ حذر الأمة الإسلامية "من التقليد الأعمى للغرب" حتى في اللباس وطرق العيش. ونحن نسأل: هل التقليد للغرب في طرق العيش واللباس أمر مرفوض شرعا؟ أعتقد أن هذا الأمر ليست له علاقة بالدين فهو أمر موكول إلى تصرف الإنسان ومدى ارتياحه من نوع معين في الأكل والشرب واللباس وهي من الأمور الدنيوية التي قال عنها "ص": "أنتم أعلم بأمور دنياكم"، فهذه الأمور مما سكت عنه الإسلام وأوكلها إلى الناس لاختيار الطريقة المناسبة لهم، فهم أحرار في أكلهم وشربهم ولا يمكن للدين أن يفرض طريقة ونمطا معينا، فالدين يسمو بالإنسان ويهذب النفوس ويغرس في القلوب المحبة والصفاء والعبادة الحقة المجردة من الرياء والسمعة والحظوة. الدين لا يتتبع صغائر الأمور ويترك الكليات الكبيرة، من حق أي إنسان أن يأكل بالطريقة التي تروق له، ويأكل على الطاولة أو على الأرض، فليس هناك حرج في ذلك، أن يأكل بيده أو بالملعقة والشوكة لا بأس بذلك، وهناك من يعتقد أن الأكل بهما من الابتداع في الدين وينهون الذين يأكلون بهما ويقولون: كل بيدك ولا تأكل بالملعقة، وأنا أسأل: الذي يأكل بالملعقة هل يأكل برجله أو برأسه؟ لو أمعنوا الفكر قليلا لرأوا أن الذي يأكل بالملعقة يأكل في الحقيقة بيده، ولكنه استخدم وسيلة تساعده على الأكل، ولكن التمسك بحرفيات الأشياء، وأخذ الأمور على ظواهرها من دون سبر أغوارها - في الحقيقة - يدل على عدم إسعاف الذاكرة على فهم الحكم الشرعي على وجهه الحقيقي. أما تقليد الغرب في اللباس، فالناس أحرار في اختيار اللباس الذي يرتاحون له بحيث يكون ساترا للعورة، كذلك كان "ص" يلبس تارة "الجبة" وتارة "القميص" وتارة "الإزار" و"البردة". والصحابة "رض" أيضا ما كانوا يلبسون شكلا معينا بل كلما وجدوا شيئا ساترا لهم لبسوه وإن كان من ورق الشجر، وحين فتح الصحابة بلاد الفرس لبسوا لباسهم وقلدوهم في زيهم وفي طريقة لبسهم وأكلهم ولم نجد منكرا عليهم. وحين نسأل هذا الخطيب عن لبس "الغترة" أو الشماغ الأحمر الذي اتسم به وأصبحت علامة بارزة على أتباع هذا المذهب، هل هو من الدين؟! وهل لبس الرسول الكريم "ص" الغترة والبشت المذهب أم أنه بدعة محدثة وتقليد أعمى؟ وهل استخدام مكبرات الصوت في الخطب والمواعظ وإيذاء الناس من الشريعة الإسلامية؟ وها هو شهر الرحمة شهر رمضان مقبل علينا بنفحاته وروحانياته، وهناك من ينغص علينا هذه الروحانيات والاجواء الرمضانية بتشغيل مكبرات الصوت صباحا ومساء، حتى في صلاة التراويح وصلاة القيام من دون مراعاة لحرمة الغير من الأطفال والكبار والمرضى وغيرهم ممن نام مبكرا كي يستعد ليوم جديد... كيف تعيبون على الناس تقليد الغرب في الأكل واللباس وهو أمر غير معيب، وتتركون الجوهر وتتمسكون بالقشور، وتتباكون على ترك الناس ما ليس من الدين؟ هذا الخطاب لا ينبغي أن يصدع على المنابر ذات القدسية، وينبغي أن تنزه عن مثل ذلك، أي عبث هذا الذي يدفع بعض الخطباء لأن تحمر وجنتاهم وتجحظ أعينهم على أمر لا يتعلق تركه أو فعله بالدين، أو يدعونهم إلى الايمان بأمر هم به مؤمنون أصلا، أو حملهم على فكرة ذات اتجاه تشددي هو يدين بها، ويطلبون من المستمعين أن يدينوا بها، وكل مخالف يعتبر مبتدعا مارقا. بينما يعتبرون افعالهم هي السنة الصحيحة، وهم وحدهم المتمسكون بها، وهم الفرقة الناجية، ومن سواهم في ضلال مبين، يرمون الناس بالبدع وأفعالهم وسلوكياتهم هي منبع البدع والفتن، يحرمون على الغير وهم يرتكبون الحرام، ويدعون الناس إلى التمسك بالسنة وهم يعانقون البدعة، بل إن البعض ممن اعتبروهم الرموز، ويشيرون إليهم بالبنان، ويستفتونهم في أمور الدين ممن كان يلعب الجمباز مع بعض الحركات البهلوانية مع استخفاف وحركات راقصة شبيهة بحركات الفيديو كليب، وهناك من كان عازفا ماهرا على "الكمان" يصدع بأنغامها ويصنع ألحانا ذات طابع غرامي، وهناك من كان معلقا ماهرا في قناة الأطفال "سبيس تون"، وبقدرة قادر يصبح مفتيا، بعد أن كان مضحكا للأطفال، فتصوروا مضحك الأطفال وصاحب ألعاب طفولية يصبح ذا مكانة وكرسي، ثم بعد ذلك يدعون لأنفسهم بأنهم حماة الشرع والذائدون عنه، وأنهم المتمسكون بالسنة العاضون عليها بالنواجذ، ولا يقبلون فكر أي طرف آخر، وهذا دليل على الحمق وحب الذات. لقد أضحى العقل السلفي المعاصر وعظيا بامتياز، يشتغل وفق معايير محددة لا يتيح للعقل التفكير والاجتهاد وهذا الفكر يطفو على سطح المشهد الإسلامي ويشكل ازمة واسعة ويطمس بفكره الثقافة والحضارة لأن فكره قاصر عن فهم ما يدور من تحديات ومؤامرات، وإني أدعو إلى تفكيك هذا العقل الذي لا يرى صوابا إلا رأيه، ولا فكرا إلا فكره، محتجا بأن ذلك من الدين والإيمان وما غرضه إلا القهر والإذعان. ويواصل الخطيب "أن الأمة الإسلامية فقدت هويتها وعزتها وكرامتها... إلخ". ونحن نستنكر هذه العبارة وبشدة وندعوه إلى التراجع عنها، فالأمة الإسلامية بخير وعافية وهي لم تفقد هويتها ولا عزتها وكرامتها، بل هي متمسكة بهذه العزة وبهذه الكرامة إلى يوم الدين، فالخير في هذه الأمة ولن يثنيها أحد عن عزيمتها، وإنما الجهل الفاضح هو الذي يؤخر الأمة ويطمس هويتها، وطالما أن الناس متمسكون بعلمهم ويعملون عقولهم ويتقبلون الرأي والرأي الآخر فإن الأمة بخير، أما إذا تفشى الجهل واتخذ الناس سفهاءهم وجهالهم قدوة لهم ونصبوهم في مراكز لا يستحقونها حينئذ تتأخر الأمة وتضيع هويتها. وأما ما ذكره خطيب آخر عن الاستقرار في المجتمع فهذا أمر مطلوب ونسعى إليه، ولكن هل صدقت النوايا؟ وما هو شأن المرأة في المحاكم الشرعية الجعفرية؟ هل أخذت حقها؟ هل أنصفها القضاة؟ هل حصلت على السكنى والنفقة التي تكفل لها العيش الكريم الذي يصون كرامتها ويحفظ عفتها من حاجة الناس أم مازالت على وضعها...؟ وهل مازالت تعلق حين تطلب الطلاق؟ وهل مازالت تسحب حضانة أطفالها عند السابعة من عمرهم؟ وهل لاتزال المرأة تدفع مبالغ باهظة تثقل الكاهل لكي تحصل على الخلع؟ يا ليت الخطيب "وهو قاض" يسعى إلى كرامة المرأة واستقرارها النفسي وينشد حريتها من خلال موقعه كقاض شرعي. ليت هذا الكلام يترجم إلى واقع وليس مجرد خطب وكلام يرسل، فهذا الكلام أنتم محاسبون عليه في الدنيا والآخرة، وينبغي أن يكون رائدهم الصدق والإخلاص، فإذا تم ذلك تحقق استقرار المجتمع، أما الكلام لمجرد الكلام فهذا لا نقبله ولا نرضى من يتكلم باسم الشريعة ان يعظ الناس ويأمرهم بإقامة العدل وتحقيق الرخاء والاستقرار من دون ان تكون هناك تحركات فعلية على أرض الواقع، فالإصلاح والعدل لابد أن ينطلق من ثوابت أصيلة تحمل في طياتها العمل الدؤوب، والاخلاص وفتح الحوار فهو منهج التفاهم وبلورة الأفكار، لا التقوقع والاعتماد على فكر فردي، فلابد من الاستماع والأخذ والرد والحوار، فينبغي على جميع الخطباء أن يتكلموا بما ينفع أنفسهم وأن يعظوا أنفسهم قبل أن يعظوا الآخرين علها تتعظ فتعود إلى رشدها. قال تعالى: "يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون" "الصف: 2 - 3". * رئيسة لجنة العريضة النسائية
العدد 1123 - الأحد 02 أكتوبر 2005م الموافق 28 شعبان 1426هـ