تحكم الوضع العربي، في لحظته الراهنة، ثنائية مفجعة. من جهة هو يعيش حالة متفاقمة من التقطيع والتفكك لاوصاله. ومن جهة أخرى، هو مندفع وبما يشبه الهرولة، نحو التطبيع والتقارب مع "إسرائيل". والملاحظ أن كلا الخطين يسيران بصورة طردية: بقدر ما يتمادى ويتأسس التفكيك - السياسي والوطني والقومي - بقدر ما تتسارع الخطى نحو مد اليد للكيان الصهيوني. وكأنه - أي الوضع - صار أسير الحالتين معا. وهي معادلة تبدو لأول وهلة، غريبة، ولو انها في الوقت ذاته مفهومة غريبة، لأ 6ي أوضاعها واحوالها للرد والاستقواء بعوامل قوتها الذاتية. ما تشهده المنطقة العربية هو العكس. ومفهومة، لأن الحال العربية بلغت حدا من الاهتراء والتشتت والافلاس، بات معه من غير المستغرب - بل من "المنطقي" اذا جاز التعبير - ان يلجأ البعض، بل الغالبية من الانظمة المتهالكة، إلى التبرع، بل التسابق بالتبرع، بفتح الابواب امام "إسرائيل"، وذلك بوهم ان مثل هذا الانفتاح يرد عنها سيف النقمة الاميركية ويشملها بالرضى وبالتالي بالحماية والرعاية بحيث يعفيها من عواصف التغيير القادمة. ولا فرق بين تطبيع حاصل بصورة علنية، وآخر بصورة سرية. المؤكد ان العملية جارية. وفي كل حال، ما حصل منها تحت الطاولة كشفه سيلفان شالوم عندما كرر انه التقى، خلال قمة العالم في نيويورك قبل حوالي ثلاثة اسابيع، باكثر من عشرة وزراء خارجية عرب - من دون ان يطلع تكذيب عربي واحد - وان تطوير أو بدء إقامة علاقات مع بلدان هؤلاء باتت مسألة وقت. شالوم طالبهم بعلنية اللقاءات، على الاقل، في الوقت الراهن. ثمة من تجاوب معه وثمة من استمهله، بانتظار الفرصة المواتية. وبقدر ما راهنت "اسرائيل"، في حملتها الدبلوماسية هذه، على توظيف ورقة رحيلها عن غزة وتصويرها على انها بادرة حسن نوايا ورغبة في السلام الحقيقي - من خلال تقديمها على انها عطاء من لدنها وكرم اخلاق تجاه الفلسطينيين - بقدر ما تجاوبت عواصم عربية مع هذا الزعم واتكأت عليه لتسويغ مباشرتها التطبيع مع تل ابيب. بموازاة هذا السخاء المجاني الانصياعي تجاه "اسرائيل" والجاري تحت غطاء "الواقعية"! يزداد التردي في العلاقات العربية. أو في احسن الحالات تسودها مناخات شبه القطيعة والتباعد المتمادي. وفي بعض الحالات وصلت الامور إلى عتبة التفسخ العميق الذي ينذر بانهيارات كيانية. فها هي القمة العربية عاجزة عن الانعقاد - على الرغم من الموافقة المبدئية على عقدها قبل حوالي شهرين في ظروف غير مسبوقة، من حيث حجم وجدية المخاطر المحدقة بالمنطقة - طارت الدعوة لها، وطارت حتى سيرتها من التداول. وكأنه لا حاجة لانعقادها! الفتور في افضل الحالات، هو المناخ السائد، في العلاقات العربية. وفي حالات معينة وصل الجفاء إلى التراشق بالاتهامات - العراق مع سورية والسعودية وفي حالات اخرى بلغ التذمر والارتياب حد نشر قوات عسكرية على المعابر والممرات الحدودية - لبنان سورية - حتى العلاقات الداخلية، في بعض الساحات، سائرة باتجاه المزيد من القطيعة والاستقطاب الذي ينطوي على تصعيد محتوم، كما هي الحال في الوضع الفلسطيني، او انه ينطوي على تأزيم خطير، بحيث يؤدي إلى فوضى سياسية محكومة بأن تؤدي إلى فوضى اجتماعية - اقتصادية، قابلة لتوليد عنف أمني، كما هي الحال على الساحة اللبنانية. لكن كل هذه الاوضاع تبدو على الاخطار الكامنة فيها، هينة بالمقارنة مع الحال العراقية. فالتقطيع السياسي الداخلي في لبنان وفلسطين يبقى قابلا للاستدراك والتطويق - إلا إذا استبد عمى البصائر بمجريات الصراع - اما عملية التقطيع الجارية فصولها في بلاد الرافدين، فإنها على ما يبدو قطعت شوطا ربما اوصلها إلى نقطة اللارجوع، واذا كانت المؤشرات والأدلة السياسية والامنية والدستورية، في هذا الخصوص، قد تراكمت إلى درجة باتت لا تخطئوها العين، الا ان الكلام الذي صدر أخيرا عن وزير الخارجية السعودي، الامير سعود الفيصل، جاء بمثابة قرع ناقوس الخطر. فأن تطلع الدبلوماسية السعودية عن عادتها المألوفة وتتحدث بالاسماء عن الاخطار المحدقة بالعراق - من تقسيم وتفكك وتعجيم وتفتين - لهو امر بالغ الدلالة، من حيث اقتراب الامور، إن لم يكن وصولها إلى الخطوط الحمراء التي لا تهدد العراق فحسب بل الجوار والمحيط معه. وزاد من أهمية كلام الوزير انه صدر أمام الاميركيين وفي دارهم - نيويورك ثم واشنطن، قبل ايام - مع الغمز من زاوية واشنطن وتواطئها في هذا الصدد، الامر الذي اعطى تحذيره بعدا أضفى عليه طابع الخطر الداهم. والأدهى أنه على رغم ذلك ومن تواتر المؤشرات التي تصب في تعزيز هذه القراءة للوضع العراقي المتفسخ، وآخر حلقاته أمس كان في تفجير الرئيس طالباني للخلاف مع رئيس الحكومة الجعفري - فإن التعامل العربي مع ما يجري ويهدد بلاد الرافدين، لم يبارح غيابه، بل غيبوبته. نفض يديه وكأن الامر لا يعنيه. فلا حراك ولا حتى حركة. ولو حفظا لماء الوجه او رفعا للعتب. والكل بات يدرك ان العراق ممدد على طاولة التشريح ويعيش لحظات الاندفاع المتهور - لكن المحسوب والمتواطئ بخصوصه - نحو ارساء ركائز واساسات التقسيم. المشهد سوداوي. لم تعرفه المنطقة من قبل. وسوداويته ليست مقصورة على الساحات اعلاه. بل هي تلف المنطقة برمتها والمحكومة بنظرية الدومينو وقوانينها. الأمين العام للجامعة العربية في آخر حديث له قبل ايام - وهو المعروف بتفاؤله واحيانا بافتعال التفاؤل، لكثرة حرصه على التمسك بالأمل - لم يبالغ حينما قال إنه "قلق" على المنطقة ككل وليس فقط على العراق وفلسطين ولبنان وسورية. فالمنطقة تغلي على سطح صفيح ساخن. لا مجال لزيادة ولا لاستغراب طالما نحن في زمن يجمع بين التقطيع والتطبيع! * كاتب لبناني
العدد 1123 - الأحد 02 أكتوبر 2005م الموافق 28 شعبان 1426هـ