اعتدنا دوما أن نرصد علاقة الأب الحميمية مع طفله، وابنه المدلل الذي يعيش في كنف أحضانه، ويتربى على تعاليمه، وينشأ في بيئة يسودها الحنان والدفء والرعاية، غير أننا لو توقفنا وتأملنا لحظة واحدة لنرصد ما عسى يمكن أن تكون تلك العلاقة عندما يشب هؤلاء الصغار ويشتد عودهم، "أي عندما تنمو أجيالنا في نظر آبائنا" ويدعي هؤلاء الصغار أنهم كبار في نظر العالم، بل حتى في عيون الكبار الذين اختلطوا بهم يوما، وتربوا على عاداتهم وممارستهم في الحياة واستقلوا بها عندما شبوا عن الطوق. كثير من هؤلاء يدعي انه كبير. ولكن، ما هو المعيار الذي عن نشخص عن طريقه الكبر والرجولة لدى ذاك الصغير سابقا؟ هنا تتدخل عدة عوامل في تقييم واختبار "رجولة الصغير"، البعض يرجحها بالاستقلالية والاعتماد على النفس في تدبير شئونه، فتجد من هؤلاء أصنافا متعددة، الأول وهو الأكثر شيوعا في مجتمعنا، بل وقد تجده في مختلف القطاعات العمرية. غير أن مرحلة المراهقة على وجه الخصوص أكثرها نشاطا، فيبادر هذا المراهق في مصارعة الحياة، ويكتوي بنيرانها شاهرا سلاحه في وجهها، لأجل غاية واحدة في نظره، وهو الرزق الحلال والحياة الهانئة المستقرة، التي تكون عبر وظيفة متواضعة أيا كانت، وراتب معقول، وزوجة كريمة وحياة أسرية مقبولة، يرضى بقسمه ورزقه بحسب اعتقاده، من دون أن يجهد نفسه في الطموح لمستوى أرقى من حاله المتدني أصلا. الصنف الآخر يتصور الرجولة بانتهاج الطرق المحرمة، لأنها في نظره الطريق إلى النشوة والحرية والانطلاق، لكنه يستفيق يوما على أنها تخيلات صنعها "طيش الشباب". وهناك صنف يعكف على كتبه ويطور من قدراته، لكنه يلهو عن نفسه، ويعيش في دوامة ضياع وصراع مع الذات حول ماهية نفسه، فيتخطى الأربعين بل والخمسين، من دون أن يحد جادة الهدى، فتراه تائها في طريق الشهوات، يخالها كل ما في الوجود. ترى كيف ينظر الكبار إلى هذه النماذج من أبنائهم الصغار؟ الأب يجد الصنف الأول محبوبا، إذ يجده أفضل نعمة انعمها الله عليه. ولكن، هل كل شاب مستقل ومتزوج يعيش حياة مثالية بحسب المستوى المرغوب في مجتمعنا؟ هنا يتحتم علينا معرفة أهلية ذاك الفرد من الناحية النفسية والعقلية، أي الجانبان اللذان يمكنانه من التعايش مع الحياة بمسئولياتها الكبرى، عند من يخال نفسه وقد أصبح من الكبار، فيسارع إلى الزواج على رغم أهليته "الناقصة"، فتصدمه المسئولية عند الاقتران. فيعيش مرهقا بسبب ثقل المسئوليات التي لم يقو على حملها، وربما لم يدركها ويتعلمها أصلا في ميدان الحياة، فإن لم يستطع الموازنة والتوفيق بين مطالب الروح والجسد فلن تكتب له تلك الحياة الهانئة المستقرة، وإذا حاول أن يخل، عن دراية أو غير دراية بهذه المطالب، فإنه يقع في معضلة كبيرة لأنه حاول أن يغلب كفة على أخرى، ما ينذر بعد ذلك بحدوث كارثة تهز كيانه الأسري. في حين أن هناك فئة تعتبر من النموذج الأول، فتجده شخصا قادرا على المستوى المادي والنفسي على الاستقلال على رغم صغر سنه، وهنا يلعب العامل التربوي والوراثي دورا في ذلك، إذ استطاع أن يوظف تلك الحاجة الفطرية عبر الطرق المشروعة، وأن يجمع بين خبرته في الحياة وتحمل المسئولية، وكيفية التحكم في النفس، فيجعل هدفه بناء حياة أسرية هانئة لزوجته وأبنائه، فيكدح ويكافح، مكونا نواة أسرته على أسس وركائز قوية، ليس من السهل أن تنهار في أي لحظة لأنه استطاع بعرق جبينه ان يبني أسرة أساسها الأخلاق والفضيلة والتربية الصالحة والايمان. وفي الختام، هل ستبقى نظرة الكبار لأبنائهم الصغار ثابتة، لا تتبدل مع تبدل الزمان والمكان، أم ستتغير تبعا لأصناف هؤلاء الصغار الذين يبقون في نظر آبائهم صغارا، لكنهم في الواقع أجيال المستقبل، الذين يبني الوطن عليهما آماله، ويحقق عبرهم مسيرة التنمية المؤملة في عهد تجاوز حقبة صيد اللؤلؤ وعصر النفط، وأخيرا عصر العولمة والتكنولوجيا. ما يقتضي أن يتعلم الفرد من الماضي، ويستلهم الدروس جيدا حتى لا يكرر الأخطاء، ويبقى، كما كان يقلد ما يراه من دون وعي، يراوح مكانه في الجهل والغفلة، لينطبق عليه وصف "الجيل الرجعي المتخلف"
العدد 1121 - الجمعة 30 سبتمبر 2005م الموافق 26 شعبان 1426هـ