"لعبة الشطرنج" بين واشنطن وطهران تدخل مرحلة حاسمة ومعركة عض الأصابع بين الطرفين تمر في أدق لحظاتها، هذا فيما يندفع العرب في غير وقتهم وفي حال خطيرة من انعدام الوزن باتجاه مسرح العمليات من دون أي أفق يذكر! والعراقيون يدفعون الثمن بالجملة ومن كل الطوائف والأطياف والاتجاهات والرابح الآتي هو "إسرائيل". نقول هذا الآن لأن ثمة اندفاعة أميركية و"حمية" غير معهودة من بعض الأنظمة للدفاع عن عروبة العراق واستقلاله "المهدد" من قبل النفوذ الإيراني المتزايد كما يقولون! استذكار التاريخ هنا ولو بشكل عابر قد يكون مفيدا. في نهاية سبعينات القرن الماضي وعندما اندفع السوفيات لفتح كابول والاستيلاء على طريق المياه الدافئة كانت القوة العربية بثقلها الأساسي إلى جانبهم، فخسر العرب المسلمون الأفغان كقوة مساندة للحق العربي والفلسطيني ولم يربحوا السوفيات حليفا استراتيجيا أبدا. بعدها بقليل من الزمن وعندما نجحت الثورة الإسلامية الإيرانية بقطع دابر النفوذ الغربي عن أهم ضلع من أضلاع محور الإطار المساند لـ "إسرائيل"، قررت القوة العربية الرئيسية خوض معركة "قادسية" ثانية لوقف ما أسمته يومها بتصدير الثورة الخمينية، فخسر العرب حليفا استراتيجيا مهما كان ولايزال بإمكانه أن يعدل التوازن الاستراتيجي لمصلحة العرب العليا، ولم يربحوا القوة العالمية الأميركية بتاتا. قبل نحو سنتين ونصف السنة من الآن وعندما جاء دور "أكل" العرب من قبل الدولة العظمى المطلقة العنان تدافع ما تبقى من قوى العرب المؤثرة لإعلان "الثقة" بعدالة الحاكم الأوحد للعالم الذي جاء "ليخلص" العرب وجيرانهم من ظلم الطاغية الصغير. اليوم، وبعدما تضاءلت أوزان العرب في لعبة الأمم يظهر ثمة من يبدي حرصه المتأخر على ما تبقى من عروبة العراق واستقلاله وسيادته! مع علمه الأكيد بأنه لا حيلة له سوى البكاء على الأطلال! إن السبيل الوحيد المتبقي للدفاع عن عروبة العراق وعن حرية أبنائه طبعا وحقوق ملله وطوائفه طبعا وليس "عروبة" الطاغية واستبداده واستخفافه بقومه واضطهاده لقومياتهم وطوائفهم المختلفة يكاد ينحصر اليوم في الدفاع عن استقلال إيران وحرية قرارها بعد أن أصبح العرب في وضع لا يحسدون عليه من الضعف واختلال موازين القوى. كيف؟ أقول هذا كصديق وناصح وأخ صادق لأحبتي وأهلي وإخواني قبل فوات الأوان! فإيران اليوم قوة إقليمية قائمة بذاتها ومعبئة تعبئة "قومية" تخوض فيها معركة كبرى تشبه معارك النهضة الدستورية وتأميم النفط في بداية القرن الماضي، ومنتصفه. مضافا إليها ظروفا تاريخيه استثنائية تقربها يوما بعد يوم من تحقيق الانتصار الكبير باعتراف دولي لا سابق له في تاريخ الكفاح الإيراني الطويل. وأسارع إلى القول هنا إن "القيامة" الإيرانية هذه تكاد تتجاوز النظام الحاكم ونوع المدرسة السياسية التي ينتمي إليها، وبالتالي ليس مهما كثيرا أن يكون الواحد منا مع هذا النظام أو ضده. وتأسيسا على ما سبق، ثمة من يعتقد أن "سكوت" الدولة الإيرانية على خصمها "الشيطان الأكبر" في كل من أفغانستان والعراق لم يكن لا من باب التواطؤ ولا من باب الضعف المطلق، بل ضمن ما ذهبت لتسميته مجازا بدبلوماسية حياكة السجاد. الدبلوماسية التي تبحث عن انتزاع الاعتراف الدولي وفي طليعته الأميركي بهذه "القيامة" الإيرانية. نعم، قد يستطيع البعض من العرب اليوم أن يجدد المبررات الكافية له ليحذر من "هيمنة" إيرانية على عروبة العراق أو من تواطؤ أميركي إيراني على عراق المستقبل، لكن ذلك لن يغير من منطق وقائع التاريخ أو تسلسلها المنطقي السائر باتجاه معركة كبرى قادمة لا محالة. كما هي الساعة التي لا ريب فيها بين واشنطن وطهران سيتقرر خلالها مصير الشرق الأوسط وفي طليعته العراق. وعندها لابد لما تبقى من القوة العربية الكامنة والفعلية أن تحدد موقفها وموقعها. ثمة من يخطط ويعمل بجهد دؤوب للإيقاع بين العرب والإيرانيين ثانية فيما يشبه "القادسية" المشؤومة. ليس بالضرورة على الطريقة الصدامية، وليس بالضرورة بقاءها محصورة على مسرح العمليات العراقي - الإيراني، بل حتى ليس بالضرورة أن يكون موضوعها العراق وإيران أو العرب وإيران، بل إنها قد تشمل هذه المرة فلسطين ولبنان وسورية وأماكن أخرى من الشرق الأوسط، وقد يدفع فيها من الحشد المذهبي والطائفي والديني والعرقي والصراع على المعايير والتعاريف والمقولات والهويات ما يجعلها أقرب ما تكون إلى حروب "ملوك الطوائف" التي يراد منها القضاء على الحلمين العربي والإيراني، وتاليا الإسلامي بالاستقلال والحرية والتحرر. إنها ليست دعوة للتحريض ضد الصداقات العربية مع دول العالم! وليست دعوة لمناصرة الإرهاب الذي ينخر بالجسم العراقي ويهدد بالانتشار تكفيرا وتفسيقا واستئصالا لما تبقى من عصر الاعتدال العربي والإسلامي. إنها دعوة لإعمال العقل والتخطيط الهادئ وتوظيف اللحظة التاريخية من أجل إعادة التوازن للجسم العربي الهزيل الذي نخره نظام الاستبداد والطغيان والتبعية الذي فرضته معادلة صدام حسين الكاذبة باسم العروبة مرة وباسم الإسلام مرة. إنها دعوة لإيران أيضا لئلا "تبتلع" ما يحتمل أن يكون "طعما" عراقيا ظاهره براق ويلمع كالذهب قد يظهر باسم الدفاع عن الشيعة أو الأكراد، لأن اللعبة قد تنقلب على بالع الطعم فتذهب كل معارك الحرية والاستقلال في مهب رياح استراتيجية "الفوضى البناءة" ومشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي يقوم على تقسيم العالم العربي والإسلامي إلى كيانات طوائفية لا يجمع بينها إلا سيادة الطائفة التي يعد لها لتكون الأقوى، ألا وهي الطائفة الإسرائيلية. إنها دعوة إلى دعم ممارسة الاعتدال والهدوء والحوار إلى جانب الثبات على المبادئ وعدم الانخراط في حروب تجييش العواطف واستحضار الأرواح الطائفية والقومية على حساب كل الإنجازات التي يمكن أن نحصل عليها من المجتمع الدولي الراهن، على رغم اختلال ميزان القوى لغير صالحنا، شرط التزام الحكمة الصينية التي تقول: "تكلم بصوت منخفض وارفع عصا غليظة". * رئيس منتدى الحوار العربي الإيراني
إقرأ أيضا لـ "محمد صادق الحسيني"العدد 1121 - الجمعة 30 سبتمبر 2005م الموافق 26 شعبان 1426هـ