في بَحْر أيام قليلة ومُتجَاورة قَتَلَ الإرهابيون نفوساً كثيرة في العراق. ضحاياهم لم يكونوا أزيد من شيوخٍ رُكَّعْ، وأطفالٍ رُضَّعْ، وبهائم رُتَّعْ. غايتهم إراقة دمٍ ألزَم الله خلقه بعدم سفكه ظلماً. ودارَت عليه شرائع الأرض تَصرُّه خَوفاً. وتنادَم العلماء حوله منذ كشف النمساوي كارل لاندشتاينر للأنتجينات قبل أكثر من مئة عام ضاربين بذلك أخماساً وأسداساً.
وما بين لوازم السماء وحيرة العلماء يتفنّن الإرهابيون في العراق «بإسراف» في سَكْب دماء البشر كيفما اتفق. مرة في سوق بالباعة مُكتَظّة، وتارة في دار عبادة يُذكر فيها اسمه، وأخرى داخل بيوت مُحرّمة دخولها على غير أصحابها. وأحياناً أخرى بالاختطاف وفقأ الأعين وحَزِّ الرقاب كما يُفعَل بالكبش. إنها فعلاً شِرْعَة للغاب قلّ نظيرها إلاّ بين الوحوش والذئاب.
يُخطئ الإرهاب في حساباته اليوم كما أخطأ سابقاً في تقدير نزاهة شِرْعته ورجاحة عقله. لن تختلط الأمور بالنسبة لنا أبداً. عليه أن يُدرِك أن قولنا الغليظ في ساسة العراق وأحزابه وتياراته، وخطايا زعامات حكمه، والتي أنتجت مُصاباً مفتوحاً في صدرنا وصدور العرب ليست بقادرة على جعلنا نُبرّر (أو نتفهّم حتى) ما يجري للأبرياء من العراقيين، فشتّان بين هذا وذاك.
فالقول في تجربة العراق ما بعد 09 أبريل/ نيسان 2003 شيء، والقول في نَزَقِ الإرهاب شيء، والقول في الاحتلال شيء، والقول في مشاريع الفدرلة شيء. والقول في دول الجوار شيء. فلكل واحدٍ من ذلك تلمُّظٌ مختلف. لذا لا يعتقد الإرهابيون في العراق أن شَتْم المالكي أو الطالباني أو طارق الهاشمي أو تعنيفهم يعني جوازَ قتلِ النفس المُحرّمة حتى ولو كانت لثغاء الشاء والمعْز.
ولا يظنّن الإرهابيون أن معاداة الاحتلال ومقاومته وتعمير السلاح في وجهه، تعنِي تفجير أحد عشر سيارة مُفخّخة دُفعة واحدة في أبودشير ومدينة الصدر، وساحة صباح الخياط، والبياع، وحي الجهاد، وبغداد الجديدة، واليرموك، والشعلة، وداخل مجلس عزاء، والكاظمية، والراشدية والغزالية، وثمانية تفجيرات متوالية في الزمن بعبوات ناسفة ضحاياها أبرياء عُزَّل.
لم تُسجّل المقاومات ضد الاحتلال عبر التاريخ أنْها فَعَلَت بشعوبها ما لم تفعله بالمحتلين. بل إن مشروعيّة المقاومة تأتي (بعد حق الدفاع عن الأرض طبعاً) من قرابينها المُقدّمة في الصراع. ولو أنها قدمت في سبيل ذلك مليون أضحية كما هو حال الجزائريين فلن يَلُومهَا أحد. هذه معادلة مسكوكة ساسها الشرق والغرب بالسّواء. مُوحّدون منهم أو وثنيون.
عندما هاجمت الطوربيدات الفيتنامية الشمالية السفن الحربية الأميركية الغازية في خليج تونكين لم يقل أحد إنها كانت المسئولة عن حرب فيتنام. ولم يُصدّق أحد ما كانت تقوله حكومة ديم العميلة في الجنوب بحق عمليات تونكين وغيرها واعتبارها سبباً في تدمير فيتنام.
وعندما نَصَبَتْ المقاومة الهولندية كميناً مُحْكَمَاً واغتالت الجنرال العميل هانس روتر ودمّرت رتله العسكري لم يَلُمها أحد عندما أعدم النازيون 263 هولندياً انتقاماً. ولم يُصدّق الهولنديون وسائل إعلام جوزيف غوبيلز على أن مقاومة النازيين قد جلبت الشّقاء لهولندا.
وعندما كانت المقاومة الفرنسية (الماكيز) تقوم بعملياتها ضد النازيين بجوار متحف الإنسان بباريس، وضد الغستابو المحلي، لم يكن أحد يسمع لصراخ فيليب بيتان. بل إن حِرص الجنرال ديغول على حياة الفرنسيين بلغ حدّ الطلب من المقاومة الفرنسية في 23 أكتوبر/ تشرين الأول من العام 1941 بوقف كل عملياتها مؤقتاً ضد القوات الألمانية النازية تجنباً للهجمات الانتقامية.
ولم نسمع عن أيّ مقاومة أوروبية أو غير أوروبية أنها قامت بتفجير أسواق أو أحياء مأهولة بشكل عبثي لقتل الأبرياء من النساء والشيوخ. فأخلاق المعركة هي جزء أصيل من الشرعية وديمومتها. ولكن عندما يلتحِف الإرهابيون بعنوان المقاومة، ثم يقتلون الناس ويسحلونهم في الشوارع ويُمثّلون بهم دون أدنى رادع ولأسباب عَدَمِيَّة فإن هذا معناه إرهاب.
لقد كانت المقاومات الشريفة وصاحبة الرؤية الواضحة في عملها السياسي والنضالي متناسبة في موضوعها ومصداقها. ولم تنجرّ إلى هَندسة سياسية أو آيدلوجية أو حتى اجتماعية راديكالية تختلط فيها الأمور، ما بين مبادئ صمّاء، وتكتيكات حمقاء، وإجراءات سوداء. وكانت بؤرة التفكير والعمل بالنسبة لها هو الاحتلال القادم من وراء الحدود فقط، وما دونه له صرف آخر، مهما كان شكله، وكيفما كان.
نحن كمراقبين، وقبل ذلك همّنا الكبير بالعراق، يجعلنا نفصل تماماً ما بين هؤلاء المجرمين وما بين المقاومين، مثلما فصلنا في السابق ما بين نقدنا للواقع السياسي العراقي وما بين قتل الناس الأبرياء. كما أن الحرص على سلامة العراقي (وليس الشيعي أو السّنّي أو الكُردي الصابئي أو المسيحي) هو غاية لا تُضاهيها غاية. والإدانة واضحة وجليّة لأي إرهابي مهما كان انتماؤه مادام لا يُراعي حرمة العراقيين أو سلامتهم وحفظ دمائهم.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 2983 - الجمعة 05 نوفمبر 2010م الموافق 28 ذي القعدة 1431هـ
الله أكبر على كل إرهابي وكل من يمول الإرهاب
والله خسارة على العراق من سيء الى أسوأ
المسئول أعلن عن مسئوليته
بالأمس أعلن تنظيم القاعدة الإرهابي مسئوليته عن التفجير قائلا في بيانه ((طلائع المجاهدين شنوا حملة جديدة مباركة (...) ثأراً لامهات المؤمنين واصحاب النبي بعد ان تمادى الانجاس الرافضة في غيهم، وقد أخذتهم الاماني بعودة المشروع الصفوي))