أولاً: في معايير الاستقرار السياسي
الاستقرار السياسي أمر تسعى إليه الأمم والشعوب؛ لأنه يُوفِّر لها الجو والبيئة الضروريين للأمن والتنمية والازدهار، ومفهوم الاستقرار السياسي مفهوم نسبي تختلف بعض مفرداته حسب المجتمعات، كما تختلف تعريفاته ومعاييره لدى الباحثين، لكنه يستبطن قدرة النظام السياسي على التعامل بنجاح مع الأزمات التي تواجهه، وقدرته على إدارة الصراعات القائمة داخل المجتمع بشكلٍ يستطيع من خلاله أن يحافظ عليها في دائرةٍ تُمكِّنه من القيام بما يلزم من تغييراتٍ للاستجابة للحد الأدنى من توقعات وحاجات المواطنين.
وبتعبير آخر إن الاستقرار السياسي هو مدى قدرة النظام السياسي على تعبئة الموارد الكافية لاستيعاب الصراعات التي تبرز داخل المجتمع، بدرجة تحول دون وقوع العنف فيه. فكثير من الباحثين يذهبون إلى أن العنف هو أحد أهم ظواهر عدم الاستقرار السياسي.
ومن معايير الاستقرار السياسي ازدياد فرص الانفتاح السياسي والديمقراطية المقترنين بالاعتدال في المواقف والسلوكيات، واتخاذ مواقف أقل تشدداً وتوتراً من قبل الأطراف السياسية والمدنية.
وبهذا يظهر أن الاستقرار السياسي ليس وليد القوة العسكرية أو الأمنية، على أهميتها في ذلك، ولا يتأتَّى بالمزيد من الإجراءات الردعية أو الإكثار من الممنوعات والضغوطات، وإنما يتم ببناء حياة سياسية سليمة، ترفع مستوى الرضى الشعبي ومستوى الثقة في الحياة السياسية وفي مؤسسات الدولة والمجتمع، وتبث الأمن والطمأنينة وبالتالي الاستقرار. إن الكثير من الدول تملك ترسانة عسكرية كبيرة وأجهزة أمنية متطورة، والكثير من مظاهر القوة المادية، إلا أن استقرارها السياسي هش، سرعان ما يعاني التداعي والاهتراء والضعف مع أي ضغط أو تحول. وفي المقابل نجد دولاً تعرف استقراراً مقبولاً أو صلباً، وتواجه أزماتها وتقاوم المؤامرات التي تتعرض لها بإمكاناتها الذاتية، على رغم من أنها قد لا تمتلك أسلحة عسكرية ضخمة، ولا مؤسسات أمنية متطورة. وكأن الدول ذات البنيات السياسية الهشة تستعيض عن تلك الهشاشة بالوفرة في القوة العسكرية والأمنية، مع أن القمع لا يصنع أمناً ولا استقراراً، بل يضاعف من عوامل وأسباب التوتر السياسي والاجتماعي، وربما انفجارهما.
يرتبط مصطلح الوسطية بلفظ الوسط ومعانيه في اللغة. لذلك ننطلق منها لتحديد مفهومه.
يقول ابن منظور: «وسط الشيء ما بين طرفيه». وهو قد يأتي صفةً، وإن كان أصله أن يكون اسماً من جهة أن أوسط الشيء أفضله وخياره، كوسط المرعى خير من طرفيه لأنه أخصبها عادة، وكوسط الدابة للركوب خير من طرفيها لتمكن الراكب. ومنه قوله تعالى: «وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ» (الحج: من الآية 11)، أي على شك، فهو على طرف من دينه غير متوسط فيه ولا متمكن. ومنه أيضاً الأثر: خيار الأمور أوساطها. فلما كان وسط الشيء أفضله وأعدله جاز أن يقع صفة، وذلك مثل قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (البقرة: من الآية 143)، أي عدلاً، ثم قال ابن منظور: «فهذا تفسير الوسط وحقيقة معناه وأنه اسم لما بين طرفي الشيء وهو منه».
أما الراغب الأصفهاني فينطلق من كون الوسط يقال تارةً فيما له طرفان مذمومان كالجود الذي هو بين البخل والسرف، ليؤكد أنه لفظ يستعمل استعمال القصد المصون عن الإفراط والتفريط، فيمدح به، مثل ما تستعمل ألفاظ السواء والعدل والنصفة، نحو قوله تعالى: «وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً» (البقرة: من الآية 143).
إن الوسطية المذكورة في الآية وإن شرحت لدى المفسرين بالخيرية والعدل، فإن هذه الصفات، بالنظر لأصل المفهوم، ناتجة عن البعد عن طرفي الإفراط والتفريط. وهو ما أكد عليه الكثير من العلماء المعتبرين. فذهب ابن جرير الطبري إلى أن الله تعالى إنما وصف المسلمين بأنهم وسط لتوسّطهم في الدّين، فلا هم أهل غلو فيه ولا هم أهل تقصير فيه، قال: «ولكنهم أهل توسّط واعتدال فيه، فوصفهم الله بذلك، إذ كان أحبّ الأمور إلى الله أوسطها».
أما ابن قيم الجوزية فبعد أن يؤكد أن دين الله تعالى بين الغالي والجافي، وأن خير الناس النمط الأوسط بعيداً عن تقصير المفرطين وغلو المعتدين، يقول: «وقد جعل الله سبحانه هذه الأمة وسطاً، وهي الخيار العدل لتوسطها بين الطرفين المذمومين، والعدل هو الوسط بين طرفي الجور والتفريط».
ومن هنا فإن الوسطية هي حالة من التوازن بين التشدد والشذوذ من جهة، والتهاون والتقصير من جهة ثانية. وهي منهج في الحياة، يرتبط بمختلف جوانب النشاط البشري، فهي منهج في فهم الشرع، ومنهج في التدين، ومنهج في العمل السياسي، ومنهج في التعامل مع الآخرين.
وتيار الوسطية تيار ممتد عبر التاريخ، ليس وليد حالة تاريخية واجتماعية راهنة، إنما هو نتاج لحركة التجديد والإحياء الإسلاميتين عبر التاريخ قادها عبر عصور مختلفة عدد من العلماء والمفكرين الإسلاميين عبر التاريخ.
ولئن عرفت المجتمعات المسلمة في مراحل متعددة، بروز أفكار وسلوكيات متشددة، أخذت من الدين الجوانب الأكثر صعوبة، بل وبالغت فيه، حتى تصوّر بعض الناس أنها هي الجانب الأهم من الحياة ومن الدين، فإن التيار الأعم والأكثر شعبيةً وانتشاراً عبر تاريخ المسلمين هو تيار الوسطية والاعتدال. وقد خط القرآن الكريم وخط الرسول (ص) في ذلك منهجاً وسطيّاً واضحاً لا لبس فيه من خلال التوجيهات المحذرة من الغلو، والمرغبة في التيسير والتخفيف، ومن خلال سيل من المبادئ والقواعد التي جعلت تيار الوسطية تياراً أصيلاً ضارباً في أعماق التاريخ الإسلامي، ومن المعروف أنه توجد مقاربات واجتهادات مختلفة في الفكر السياسي الإسلامي، منها الموسع والمضيق. ومن هنا الحاجة إلى تبين أهم سمات وتأثيرات المنهج الوسطي.
ليس التوجه الوسطي في المجال السياسي مدرسة واحدة، ولا توجهاً نمطيّاً، لكن له سمات إن كان من الصعب استقصاؤها جميعاً فمن الممكن الوقوف عند أهمها.
-السياسة فكراً وممارسةً في المدرسة الوسطية مجال اجتهاد كما بين ذلك العلماء الذين كتبوا في السياسة الشرعية، كما أنه مجال مقاصد لدخوله في دائرة المعاملات (التي يسميها علماؤنا:العاديات). وهذا من معاني القاعدة الأصولية: «الأصل في العبادات والمقدرات التعبد، والأصل في العاديات الحكم والمقاصد».
وبالتالي فإن الأحكام السياسية الشرعية المنصوص عليها في الكتاب والسنة محدودة جدّاً، أما الباقي ففضاء واسع لإبداع الفكر البشري في ظل المرجعية الإسلامية. فلم يحدد الإسلام شكلاً معيناً للدولة ومؤسساتها، وطبيعة العلاقات فيما بينها، ولم يحدد طريقة للتداول على السلطة ولا لاختيار الحاكم، ولا لكثير غيرها من أساسيات الفكر السياسي.
كما أن إجراءات السياسة الشرعية لدى الفقهاء المعتبرين إجراءات تهدف إلى تحقيق المصالح ودرء المفاسد وفق الضوابط الشرعية، وإن لم يرد بذلك الإجراء نص، وعنها ينقل ابن قيم الجوزية قول أبي الوفاء بن عقيل: «السياسة ما كان فعلاً بحيث يكون معه الناس أقرب إلى الصلاح وأبعد عن الفساد، وإن لم يشرعه الرسول (ص) ولا نزل به وحي».
إقرأ أيضا لـ "سعد الدين العثماني"العدد 2982 - الخميس 04 نوفمبر 2010م الموافق 27 ذي القعدة 1431هـ
لبنى وهبي
مقال جيد مثل مقالات الدكتور سعد الدين العثماني. فالوسطية مفتاح معالجة إشكالات عالمنا المعاصر. لكنها تحتاج إلى قيادات تتمثلها. والعثماني منها. شكرا على نشر المقال