لا ينبغي لنا أن نشك في أن سياسة كل مجتمع ترتبط بالحضارة الناشئة منه، وأن حصول أي تغيير أساسي في السياسة منوط بالتحول الذي يصيب هذه الحضارة. وما يصح على وجه العموم يصح على وجه الخصوص، وعلى الليبرالية والحضارة التي وراءها.
إن هذه الحضارة، التي تسيطر اليوم على العالم، اجتازت في تاريخها أزمات كثيرة، وهي لا تخلو اليوم من أزمات. لكن يبدو أن الأزمة الحالية تختلف عن الأزمات السابقة التي كانت أزمات ولادة وبلوغ، لا بل يمكن القول إن الأزمة التي تواجهها اليوم خليقة بأن تسمى أزمة الهرم.
لابد للإنسان من المرور، آجلاً أو عاجلاً، بهذه المرحلة، لكن أي مجتمع لا يمكنه أن يأمل بمستقبل أفضل ما لم يعتبر بما سلف، وينظر في الاعتبار إلى تجارب البشرية النظرية والعملية، ومنها تجارب الحضارة الغربية ومن تجارب هذه الحضارة النظام الليبرالي الديمقراطي، وأن ينتفع من النتائج الإيجابية لتجارب الآخرين.
لا شك بأن هذا النظام السياسي مسئول مسئولية مباشرة عن كم لا يحصى من المظالم والعذابات في حدود الدول التي تصطنعه وخارجها. ولا شك بأن هذا النظام قد نحا أحياناً وجهات أقل ما يقال فيها إنها متوحشة. ولكن هذا جميعاً لا يغني عن الاعتراف بالمنجزات التي ما كان للبشرية أن تضيفها إلى رصيدها لولا الحضارة الجديدة ونظامها السياسي هذا.
إن مفاهيم، مثل الحرية وسيادة الشعب وحق الشعب في المساءلة ودستورية السلطة وتحديدها بإرادة المحكومين، والسعي إلى بلورة آليات إنسانية عملية يعول عليها في تحقيق هذه المفاهيم، لا يمكن التطفيف من قيمتها، ولا أن الثمن الذي دفع في سبيل تحصيلها كان باهظاً. حتى إن لم نعتبر هذه جميعاً أهم منجزات الحضارة المعاصرة فهي من جملة أهمها.
هذه الإنجازات ليست غنيمة عظيمة للذين ينظرون إلى الكون والحياة بنظرة علمانية وبشرية صرفة، وبذهن منقطع عن الوحي ويتدبرون فيهما، بل ربما يعتبرون العقد منشأ السلطة السياسية فحسب، بل هي كذلك أيضاً للمتدينين المؤمنين الذين يعتقدون بإمكان تحقق الحكومة الإلهية، (في غيبة المعصوم). ولئن كانت هذه الأسس والمفاهيم مضمنة في التعاليم الدينية والأخلاقية للمجتمعات القديمة التي من جملتها المجتمعات الشرقية، لاسيما الإسلام، فليس يسعنا أن ننكر أن ابتكارية المشروع الأوضح والأدق والأوفق نشأت في صلب الحضارة الجديدة، وأننا ندين بها للمفكرين والمثقفين الغربيين.
إن صحة التعريفات والتصورات التي يملكها الغربيون عن هذه الأصول والمفاهيم قابلة حتماً للنقاش، ولأنْ توضع موضع البحث الدقيق، بل لابد من التوفر على ذلك وعلى دراسة مقدار النفع الذي تجنيه الرأسمالية من أفكار مثل الحرية ودستورية السلطة، والنتائج المريرة التي عاد بها انتفاع الرأسمالية من هذه الأفكار على البشرية. فظهور فكر جديد ومستقبلي نحن بحاجة شديدة إليه لن يكون إلا في ضوء مناقشة ودراسة متزنتين.
وإذا سلمنا بأن الوصول إلى نتيجة مقبولة في باب السياسة رهن الإلمام بمسار الحضارة الجديدة ومصائرها، فإن البحث الفعلي هذا من شأنه أن يعد، من خلال مقارنة بين مطالع الحضارة هذه والوضع القائم اليوم، أرضية هذا الإلمام، مع التنبيه على أن المقارنة في هذا المورد ستكون، مثل كثير من المواضيع الأخرى، سريعة ومجملة.
الخلاصة أن المجتمع لا يمكنه أن يصنع حضارة ما لم يكن مفعماً بالقوة والدافع الذاتي. وهدفنا من المقارنة الاهتمام بالقوة والدافع الباطني والذاتي للحضارة الجديدة، أعني ما صار منشأ لتحول مثير للدهشة في وضع العالم والإنسان، ومعرفة ما إذا كانت الحضارة الجديدة لاتزال تتمتع بهما. فإن لم تكن قد فقدت التمتع بهما أمكن الاستنتاج أن عالم السياسة على أبواب تحول في الحضارة الغالبة، وأنه عرضة لتحول حاسم. وهذا التحول، مع الإقرار باستحالة توقع ما سيكون عليه في تفاصله، آيل للتلمس بالاعتماد على القرائن والعلامات.
إقرأ أيضا لـ "محمد خاتمي "العدد 2982 - الخميس 04 نوفمبر 2010م الموافق 27 ذي القعدة 1431هـ
خطأ البدء من الصفر
خلاصة كلام السيد أن الحضارات في كل واحدة سلبيات وأيجابيات ولكي ننجح لابد أن ندرسها ونأخد أيجابياتها ونتجنب سلبياتها فالباديء من الصفر تفوته تجارب الاخرين