هل يكون فوز الحزب الجمهوري بغالبية مقاعد مجلس النواب الأميركي بداية انقلاب في سياسة باراك أوباما أم أنه سيترك تأثيره المحدود على مشروع الإصلاح الداخلي واستراتيجيته الخارجية؟
الجواب حتى يكون وافياً لابد من العودة إلى قراءة ظاهرة «حزب الشاي» الذي كان له الفضل في إعطاء الزخم الشعبوي للحزب الجمهوري. إذا كانت الظاهرة مجرد ردة فعل لونية بيضاء ضد تجمع الأقليات الملونة ورسالة رمزية تريد الانتقام من خطوة كسرت التقاليد النمطية في تداول السلطة الرئاسية فإن احتمالات نموها تصبح محدودة ولن تترك تأثيرها على الحياة البرلمانية الروتينية. أما إذا كانت الظاهرة تعكس مخاوف الأكثرية البيضاء من نمو قوة التكتلات الملونة فإن «حزب الشاي» سيتحول إلى «حصان طروادة» داخل الحزب الجمهوري وسيدفعه خطوات إلى التطرف العرقي وما يعنيه من تجاذبات أهلية تتخذ من الانقسامات اللونية وتراجع موقع الدولة في أميركا والعالم وسيلة ابتزاز للاتجاه نحو موضوعات قد تزعزع صورة النموذج ومثاله التاريخي.
الظاهرة ليست بسيطة وقد لا تكون ثأرية ومؤقتة، لأنها في إطارها العريض تشكل ذلك الوعاء الذي يستوعب احتجاجات قوة معترضة لها وزنها السياسي في الشارع الأميركي. وهذا الوزن يستمد ثقله من تاريخ طويل من التمييز وانفراد جماعات الواسب (تكتل الانغلو ساكسون البروتستانتي الأبيض) في قيادة الدولة منذ الاستقلال في القرن الثامن عشر حتى فوز أوباما بالرئاسة قبل سنتين. وبهذا المعنى التاريخي قد تشكل الظاهرة نقطة تحول في المزاج الأميركي وخطوة نحو إعادة صوغ الهوية ضمن شروط ومحددات أكثر صرامة من السابق.
هذا في الجانب الايديولوجي. أما في الجانب الاقتراعي فهناك قراءة أخرى. بغض النظر عن النتائج الفورية للانتخابات النصفية تشير التوقعات إلى أن السياسة الأميركية لن تنقلب على نفسها بين ليلة وضحاها، كذلك لن تتعدل بنسبة 180 درجة. فالمزاج الشعبي في الشارع الذي انحاز من غالبية 65 في المئة مع أوباما إلى معارضته بعد سنتين من انتخابه للرئاسة لن يكون له تأثيره الجارف على المؤسسات بالقدر الذي عكسته نسبة التصويت.
دائماً هناك مسافة زمنية بين دورة الانتخاب ودورة السياسة، لأن الأولى تقدرها الصناديق بينما الثانية تقررها المؤسسات التي تحمي الدستور وتنظم المصالح وتوزع الحصص والأدوار وترتب جدول أعمال الدولة وأولوياتها. لذلك يرجح ألا تظهر التأثيرات المباشرة قبل مرور ثلاثة أشهر على التوزيع الجديد للمقاعد. وهذه المساحة الزمنية تعطي فرصة للتفاوض بين الأطراف الحزبية واكتشاف توجهاتها الميدانية. ولكن الواضح من الآن أن أوباما سيواجه صعوبات قد تزيد من تكبيله وتعطل عليه اتخاذ قرارات مريحة وغير مثقلة بالشروط والتوجيهات والتنبيهات.
المؤسسة في أميركا أقوى من الرئيس حتى لو كان يتمتع بصلاحيات استثنائية. وبسبب قوة المؤسسة يمكن أن تفهم الصعوبات التي واجهها الرئيس في السنتين الماضيتين على رغم أن الحزب الديمقراطي كان يبسط نفوذه الأكثري في الكونغرس (مجلس النواب ومجلس الشيوخ).
قانون المؤسسة نفسه ينطبق على الكونغرس. والحواجز التي عطلت حركة أوباما قبل سنتين ستتكفل بدورها في الحد من حرية حركة «حزب الشاي» حليف الجمهوري في النواب، لأن القرارات لا يمكن لها أن تخرج على قنوات التفاوض والتسوية قبل أن تتوصل اللوبيات (أجهزة الضغط) إلى تصنيع توجهات من خلف الكواليس.
«حزب الشاي» بوصفه حركة عفوية غير واضحة المعالم سيكون أمام امتحان صعب في تجربته الأولى ولذلك سيكون مخيراً بين تفويض الحزب الجمهوري ليلعب الدور المحوري في إنتاج القرارات وصوغها أو أنه سيشكل قوة ثالثة تنشط على هامش الكونغرس ما سيعطيها فرصة للتعطيل أو للدفع باتجاه المزيد من التطرف في مواجهة إصلاحات أوباما وطموحه لتعديل خريطة الضرائب وتحديث أنظمة الضمانات الصحية والتربوية والاجتماعية.
الحزب الجمهوري لا يستطيع تحدي إصلاحات أوباما علناً لأنه سيكون في مواجهة قواعده التقليدية التي لها مصلحة في التغيير لكونها مستفيدة من تلك الخطوات في مختلف القطاعات المنتجة أو الاستهلاكية أو الخدمية. وهنا تأتي مهمة «حزب الشاي» غير المنظورة الذي يستطيع رفع التحدي من دون خوف على التاريخ أو السمعة أو الشرائح صاحبة المصلحة في تطوير أنظمة العمل والضريبة والتقاعد.
هل يستخدم الحزب الجمهوري قوة «حزب الشاي» لتعطيل خطوات أوباما أم ينجح «الشاي» في جرجرة الجمهوري نحو سياسات غوغائية تثير الحساسيات والمخاوف وتقض استقرار المؤسسات وحرصها على ضمان استمرار النموذج الأميركي وقدرته على التكيف مع المتغيرات الديموغرافية اللونية التي طرأت على التكوين السكاني للولايات المتحدة؟ هذا السؤال يحتاج إلى فترة سماح حتى يمكن اختبار سلوكه وفحص توجهاته بعد انتقال «حزب الشاي» السريع من حركة عفوية غوغائية إلى قوة ثالثة تلعب دور «حصان طروادة» في الكونغرس. والفترة المطلوبة قد تتعدى نهاية السنة الميلادية الجارية وصولاً إلى مطلع المقبلة.
أوباما مهما حاول التهرب من مواجهة المأزق فإنه لاشك أصبح في موقع أصعب من السابق سواء على مستوى طموحه الشخصي في إنجاز وعوده أو على مستوى التعامل مع مؤسسات تشاركه في صنع القرارات وتوجيهها في الداخل والخارج.
داخلياً يرجح أن يتراجع الرئيس عن الكثير من البنود في برنامجه الإصلاحي وتحديداً تمديد فترة خفض الضرائب عن الشرائح العليا من أصحاب الدخل المرتفع. وهذا التراجع سيكون له أثره السلبي على الموازنة الفدرالية وسيدفع الخزينة نحو المزيد من الاقتراض ومراكمة الفوائد والديون التي يرجح أن تفيض على دورة الإنتاج السنوية (18 تريليون دولار). والتراجع في تعديل الضريبة (دخل الدولة المقتطع من مصادر قوة العمل وقطاعات الإنتاج والاستهلاك) سيكون له وزنه المعنوي على الإنفاق في مجالات الصحة والتربية وتحديث المواصلات وإصلاح أنظمة الضمان الاجتماعي ورواتب التقاعد.
خارجياً يرجح أن يقدم الرئيس على تدوير تعامله مع ملفات كثيرة بدءاً بمشروع «الدرع الصاروخي» وإطاره الردعي الأوروبي من دون إثارة مخاوف روسيا وحذرها من خطوات تطويق المجال الحيوي للكرملين وحدائقه الخلفية. كذلك يرجح أن يقدم على تعديل توجهاته نحو الصين (القوة المنافسة الرئيسية) وتعاملاتها التجارية (السوق الأميركية وقوة العملة) أو المالية (الزبون الأول لسندات الخزينة).
تبقى ملفات «الشرق الأوسط الكبير» من أفغانستان والعراق وصولاً إلى لبنان وفلسطين والسودان، وما تتضمنه من أوراق متفجرة لها صلة بالإرهاب الدولي وبرنامج إيران النووي وطموحات طهران في لعب دور الدولة الإقليمية والشريك الأول في تقاسم الأدوار مع الولايات المتحدة في المنطقة، تشكل الهاجس الرئيس الذي يقلق واشنطن ويمنع عنها القيام بمهمات خاصة بسبب انحيازها التقليدي لحكومات تل أبيب.
مشكلة أوباما تركزت خارجياً في منطقة الشرق الأوسط حين عجز في التوفيق بين المصلحة الأميركية العليا وبين صداقة «إسرائيل» ورفض الأخيرة التكيف مع المعادلات والمتغيرات.
أوباما أساساً لم يعدل الزوايا في السنتين الماضيتين على رغم أنه غامر وحاول وفشل. وهو الآن سيواجه القانون الذي عطل عليه إمكانات ضمان المصلحة الأميركية من دون الإضرار بأمن حليفه الذي يبالغ في تضخيم المخاطر الإقليمية. فهل ينجح في عقد تسوية مع الحزب الجمهوري تشكل قوة ضغط مشتركة على حكومة تل أبيب أم أنه سيسقط في المنافسة ويترك زمام المبادرة لقوة تزاحمه في اكتساب تغطية من اللوبيات؟
احتمال توصل أوباما إلى عقد تسوية مع الحزب الجمهوري بشأن ملفات «الشرق الأوسط الكبير» تبدو صعبة بوجود حزب شاي عفوي غوغائي يلعب دور المحرض من جانب ويدفع من جانب آخر باتجاه المزيد من الانكفاء إلى الداخل الأميركي وربما الانعزال نحو القضايا الصغيرة التي تثير الاضطراب الأهلي في الولايات.
صعوبات كثيرة تواجه أوباما في الداخل والخارج بعد انتهاء فترة الانتقال من غالبية ديمقراطية إلى غالبية جمهورية، إلا أن خطوط السياسة العريضة لن تظهر بسرعة قبل ثلاثة أشهر ويرجح ألا تشكل انحرافاً بنسبة 180 درجة لكون القرارات في أميركا هي نتاج تسوية بين الأجنحة تصوغها المؤسسات قبل الرئيس. المتغيرات ستحصل ولكنها في كل الحالات ستكون محدودة لأن الرئيس حين كان يتمتع بالغالبية لم ينجح بالتخلص من شروط التسوية، كذلك حين يكون الحزب الجمهوري في موقع الأكثرية لن يكون بمقدوره تجاوز الرئيس من دون تسوية تضمن التوازن أهلياً في الداخل الأميركي واستراتيجياً في التعامل مع قضايا خارجية حامية لا تحتمل المزيد من السخونة.
إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"العدد 2981 - الأربعاء 03 نوفمبر 2010م الموافق 26 ذي القعدة 1431هـ