من المدارس نتعلم بعض المهارات كالقراءة والكتابة وحل ألغاز بعض الأرقام والحسابات. ومن الحياة نتعلم «حكمة الحياة» وفلسفتها وأفراحها وعذاباتها. لكنني اليوم أُكثر من ملاحظة ما يجري في كثير من مجالسنا بحثاً عن الفوارق بين أولئك الذين دخلوا المدارس النظامية وأولئك الذين تعلموا من مدرسة الحياة الحقيقية، في الحقول والأسفار والمجالس. ولك أن تسأل: ما الذي نتعلمه اليوم في مدارسنا؟
قبل سنوات، كنت أشاهد برامج تلفزيونية عربية كثيرة وكانت الجملة التي تتكرر كل دقيقة في أغلب تلك البرامج هي «لا شك أن». تأمل هذه الجملة: لا شك أن! إنها تنفي تماماً أي «شك» في الفكرة التي يتحدث فيها صاحب القول كما لو أنه يقدم «الحقيقة» على طبق من ذهب ولا يمكن السؤال أو الجدل أو الشك في تلك «الحقيقة». صادف أن زرت بعدها بأيام مجلس أبي في جنوب السعودية ولاحظت كيف يتحدث ضيوفه، من البدو والحضر، خاصة من جيله ممّن لم تتح لهم «فرصة» دخول المدارس النظامية. كان بينهم كثير من الشعراء وشيوخ القبائل. وطيلة ساعات حضوري، لم أسمع جملة «لا شك أن» في أي حكاية أو حوار.
ما الذي تردد كثيراً هناك؟...
كان الحاضرون، بين فينة وأخرى، يرددون: «الله العالم». وتلك الجملة تلغي «القطعية» في الرواية أو في التحليل.
قال قائل: «الله العالم أن الحادث الذي مات بسببه ثلاثة من أبناء القرية المجاورة تسببت فيه شاحنة مسرعة». ورد آخر: «الله العالم أن الهاتف الجوال كان السبب». تخيلت لو أن «مثقفاً» من جيلي روى الحكاية، كيف سيرويها؟ أعتقد أنه كان سيقول: «لا شك أن السرعة كانت السبب»!
من «المتعلم» في مجتمعنا اليوم؟
أبي يفاخر بذكر اسم أمي وأمه وبناته وأخواته في المجلس. وأبناء جيلي - وبعضهم يحمل شهادات عليا من جامعات غربية- يستحي أن يذكر اسم ابنته أو زوجته عند أصدقائه. أبي، وأبناء جيله - وأستطيع المراهنة على ذلك - لم يكفر يوماً أياً من أبناء قبيلته أو القبائل المجاورة بسبب اختلاف في وجهة نظر أو خصومة على أرض أو قطيعة فرضتها أحكام القبيلة. أما أبناء جيلي «المتعلمون» فكثير منهم، في مرحلة ما من أعمارهم، صنّف الناس بين غالبية في النار وقلة في الجنة!
أين الخلل إذاً؟
يدخل الطفل المدرسةَ ليتعلم الكتابة والقراءة وبعض المهارات - وربما المبادئ - التي تساعده على مواجهة المستقبل، فما هي إلا سنوات قليلة حتى يبدأ يسأل أبويه عن الحلال والحرام، وعن الجنة والنار، وعن عذاب القبر وكيفية الصلاة على الأموات. وبعد قليل، يبدأ في فرز زملاء الدراسة واختيار الأصدقاء: هذا شيعي وذاك سني. هذا أبوه علماني وذاك عمه يساري ... وهكذا.
كنت محظوظاً أن نشأت في مجتمع تحكمه أعراف القبيلة العريقة أكثر من أعراف المذاهب وطقوسها. وكان أبناء قبيلتي يحتفون بالضيف أيما احتفاء ثم يسألون عن قبيلته وأسرته. وحينما تركت حمى القبيلة ورحلت للدراسة في المدينة الكبيرة، نقلت كثيراً من أعراف القبيلة وعاداتها معي.
في الإسكان الجامعي، بحثت عن أبناء قبيلتي وسكنت بجوارهم. كان معنا - بالخطأ- زميل من مذهب آخر وكان شديد الحذر والتوجس منا. لكنه من شدة حيرته تجاه احتفائنا الزائد به، إذ لا يحل موعد وجبة دون أن نناديه لمشاركتنا، جاءني يسأل: سليمان، هل تعرف أنني شيعي من القطيف؟ رددت عليه بثقافة - ربما براءة - ابن القبيلة الجنوبي: وأنا قحطاني من سراة عبيدة! قال: صدقاً، أنا شيعي من القطيف. قلت والنعم بك وبقبيلتك! وما هي إلا أشهر قليلة في الجامعة حتى «نتعلم» كيف نشك في بعضنا البعض ونحذر من صداقة أصحاب المذهب المختلف ونشرع في التكفير والشك وسوء الظن، والبعض ربما تمادى في التكفير حتى مارس التفجير!
كنت أجد ملاذي في مجلس أبي، ذلك العصامي العملاق الذي تخرج من أعرق جامعة في الحياة، جامعة التجربة الإنسانية العظيمة، فما إن تضيق بي السبل وتزداد حيرتي في كل شيء حولي حتى أجلس في مجلس أبي وأعود إلى طمأنينتي ورشدي! في مجلس أبي، شاهدت وعشت كيف ينصت الحضور، وكيف يحترم الصغير الكبير، وكيف يجد الضيف كل هالات الترحيب والتقدير، وكيف يقبل «كبار السن» على الحياة بكل تفاؤل وحماس.
ذات يوم، هرع شباب من قرية مجاورة يحتفلون بما ظنوا أنه أهم إنجاز في حياتهم: قبطي مصري يعمل في أحد المستشفيات القريبة بدأ يفكر - ربما ليجاريهم درءاً لضغوطهم - في دعوة أولئك الصبية له بدخول الإسلام. كانوا يلحون عليه لأشهر أن يدخل في دينهم فيصبح «منهم وفيهم» ويكسبون بسببه الأجر والثواب. سمع قصتهم رجل مسن من أبناء القرية، لم يدخل مدرسة أو جامعة مثل تلك التي دخلها الصبية الدعاة، فنادهم ثم وبخهم: ما لكم ودين الغريب؟ ثم سأل: ألم تفكروا في أهله؟ كيف ستكون حالنا لو أن أحدكم اضطرته ظروف الحياة لأن يغترب إلى ديار هذا الغريب ثم يعود إلينا وقد بدل دينه؟
هكذا هي حكايتنا مع «التعليم» في محيطنا، تجهيل أكثر من كونه تعليماً! فكثير من مدارسنا اليوم تهيئ الطالب ليتعلم أدوات التجهيل والتنفير وربما الإقصاء والتكفير. ومدارسنا خرجت الآلاف من أولئك الذين تمتلئ بهم شاشاتنا ممن يردد بين جملة وأخرى «لا شك أن... لا شك أن».
حقاً... إننا بأمس الحاجة للتأسيس لـ «فلسفة تعليم» جديدة... تحرر مجتمعاتنا من سلطة خطابات الجهل والتجهيل وتقدم التفكير على التكفير والحياة على الموت!
إقرأ أيضا لـ "سليمان الهتلان"العدد 2980 - الثلثاء 02 نوفمبر 2010م الموافق 25 ذي القعدة 1431هـ
اليك ايها الكاتب الجميل تحية
ايها الكاتب الجميل قراءة مقالك يجعل الانسان ينسى حاله وكأنه يرتشف كأس من العسل لشدة المتعة فيما تكتب ولسلاسة انسياب الجمل والعبارات انك تأسر القارىء بجمال اسلوبك
وما يخص انتقائك للمشكلة فانك تختار الدواء المناسب وتشخص العلاج لامراض اضحت تنخر في قوى مكوننا الاجتماعي وكأني بك تسعى لان تدلو بدلوك في دق جرس الخطر الذي يهدد مجتماعتنا وذلك جهد يستحق ان نقولك لك ( رحم الله والديك ) على هذه التربية واضيف ان ما ذكرت يعودني الى وصايا المرحوم والدي للتمسك بثوابت ماذكرت فجزاك الله خير
ابن الوداعي_باربار
الهتلان
سليمان الهتلان ,,,
شكرا جزيلا لك
انك لحق قلم رائع
ولن أقول لا شك ، لأني قد اقع في المحذور الذي نبهتني اليه
تمنيت لو كلهم يفهمون ما تعنيه لكنا بعدها بألف خير
اطياف
انتقلت الى المدينة (مدينة عيسى) منذ عمري سنتين والتقيت بناس من مختلف الاطياف - ناس من المحرق وناس من القرى ومن المنامه وناس اصلهم من الهند وناس اصلهم من ايران .....الخ المهم ان هذا الطيف الجميل هو الذي اعطاني حصانة من الارتماء في جانب التطرف وفي النهاية كلنا ابناء ادم
مقال رائع وتحياتي الى الكاتب
جميل هي آرائك وتطلعاتك التي تكتبها
صباح الخير،،،،
لكل قراء جريدة الوسط
نحن في الجامعة في المكتبة ،،معظم الطلبة جريدةالوسط هي إفطارهم الإلكتروني
مقال جداً رائع ،
هناك أناس تتخرج من أرقى الجامعات الغربية، والأخلاق معدومة
بالمقابل هنالك ناس تعلموا من مدرسة الحياة الواقية ، بالتعايش مع جميع الظروف سواء كانت مضيئة أم مظلمة.
على فكرة،،برنامجك رائع يا ((سليمان))
وكذلك اللقاء التي اجرته معك الإعلامية بروين حبيب كنت متألقاًبفكرك وثقافتك النيرة
مقال أكثر من رائع
كاتبي العزيز تعجبني القضايا التي تطرحها إيما اعجاب ونتمنى أن يكون لك عميد يومي في جريدتنا الوسط محبوبة الجاهير حتى ننهل من معين فكر الحر الصافي .سلمت يداك ودام قلمك الراقي
ليست الفكرة بغائبة عنهم لكنها ......
ليست الفكرة بغائبة عن أصحاب القرار لكنها السياسة الجاهلة والقاتلة هكذا كانت تربيتهم وما أرادوه لاجيال وأجيال حاضرة والنتيجة ما نشاهد ونرى اليوم من مكمونات اجيالنا من خرج من روح الانسان وأكثر والشواهد كثيرة هذا ما زرعتم وهذا ما تحصدون والاخطر ما يحصد غيركم من لا ذنب له ...