تعلو منذ فترة في ساحة العمل السياسي البحريني دعوات، نفترض أنها جميعا صادقة النوايا، من أجل حوار وطني جاد وبنّاء ينتشل البلاد من الطريق المسدود الذي تتجه نحوه. لقد بدأت الأقلام الملتزمة سياسيا، والمستقلة تنطيميا، على حد سواء تدلو بدلوها في هذا المضمار. لن نتوقف هنا عند تلك الدعوات التي تنطلق من خلفيات انتهازية لا تتجاوز أهدافها أنوف من يقفون وراءها، ولا ينبغي أن نعير أي اهتمام لمن يحاول أن يقلص دائرة الحوار من فضائها الوطني الرحب، إلى محيطها الفئوي الضيق.
الأمر الذي يثير الاستغراب أن هذه الحوار، والمقصود بالحوار هنا، ذلك الذي تقف وراءه قوى صادقة تضع مصلحة البلاد الكبرى فوق أي مصلحة أخرى، مهما كانت تلك المصالح، والمتعدد الجوانب، والذي ما يزال رغم إصرار الداعين له، يراوح عند زاوية المربع الأول من ساحة الحوار هذه. وفي رأينا المتواضع ان قدرة هذا الحوار على التقدم، ولو بسرعة بطيئة، مربوطة بمجموعة من الفرضيات التي يمكن ان نوجز أهمها في النقاط التالية:
1. الاتفاق على الأهداف الكبرى؛ ففي غياب تحديد واضح للأهداف والغايات الكبرى التي من أجلها وافق المتحاورون على الالتقاء، يفقد هؤلاء المتحاورون القدرة على مخاطبة بعضهم بعضا، الأمر الذي يفقد الحوار، هو الآخر القدرة على التحول من خطابات رنانة وبيانات إعلامية، إلى برامج سياسية وخطط وطنية. وأسطع مثال على أهمية تحديد الأهداف من أجل إنجاح الحوارات الوطنية، ذلك الفشل المصاحب للحوارات التي تدور بين الأطراف المختلفة في الساحة اللبنانية، والتي، دون الحاجة إلى الدخول في تفاصيلها، قاد تباين وجهات النظر حول الأهداف، إلى استمرار الحرب الأهلية اللبنانية لأكثر من ربع قرن.
2. تحاشي إلحاق الهزيمة بطرف لصالح طرف، من خلال تشبث طرف معين أو كتلة سياسية ما بأهدافها، وتمسكها بالدفاع، بوعي أو بدون وعي، عن مصالحها الذاتية الآنية الضيقة، ضاربة عرض الحائط بمصالح الفئات الأخرى. ومن الممكن أن يتم ذلك تحت مبررات كثيرة من بين أهمها أن تلك الكتلة تتوهم، وربما هي كذلك في واقع الأمر، أنها تمثل الأغلبية التي، من حقها من وجهة نظر تلك الكتلة ان تستأثر بحصة الأسد عند تحديد الأهداف أو وضع الخطط التنفيذية لها. وتكشف الساحة الفلسطينية الكثير من جوانب مثل هذه النزعات الاستئثارية التسلطية. ولعل في التجربة اليمنية في السبعينيات الكثير من العبر على هذا الصعيد، حيث فشلت القوة المتحاورة في تحقيق الوحدة الوطنية نظرا إلى شراهة بعض القوى وتمسكها بأن تكون لها حصة الأسد من جهة، وتقزيم حقوق الأطراف الأخرى من جهة ثانية.
3. النظرة المتكاملة بدلا من الأجزاء المتناثرة، كثيرا ما تحرف هذه الأخيرة الرؤية الوطنية عن أهدافها الكبرى، وتحرم، بالتالي، الأطراف المتحاورة من الوصول إلى برنامج تحالف وطني متكامل. هذا الأمر من شأنه الزج بالحوارات بين تلك القوى في أزقة ضيقة توصلها، حتما في نهاية المطاف إلى طريق مسدودة، بالقدر ذاته تتيح النظرة الأولى المجال أمام ترتيب صحيح للأولويات، وتنضيد متناسق لمكونات المشروع الوطني يضمن سلامة التنفيذ، ويقلص من ثمن التضحيات.
4. تغليب المدخل الشمولي، بدلا من طغيان النزعات الأنانية المتعالية، إذ تحرص النظرة الشمولية على استقطاب القوى السياسية الوطنية، بغض النظر عن حجمها التنظيمي، أو انتشارها السياسي، انطلاقا من مبدأ أخلاقي، يقضي بأن لكل فئة دورها السياسي مهما بلغ ذلك الدور من صغر. فمحصلة تضافر جهود القوى الصغيرة تقود إلى تشكيل كتلة حرجة سياسية قادرة على انتزاع المزيد من المكاسب لصالح تطور المجتمع وتقدمه على طريق بناء دولة المؤسسات. ولابد لمن يدخل في بوتقة هذه الحوارات أن ينظر إلى هذا التضافر من منطلقات رياضية جبرية، وليس حسابية عددية.
5. مراعاة مصالح القوى الإقليمية، التي من مصلحتها تأمين الاستقرار والتطور للبحرين، بدلا من إثارة القلاقل والشغب، الذي من شأنه توتير الأجواء و زيادة الاحتقانات. هذه المراعاة من الطبيعي أن تكون منطلقاتها ومن ثم أهدافها وطنية. هذا البعد الإقليمي ينبغي التوقف عنده بحذر شديد لكي لا يجري تغليب ما هو إقليمي على ما هو وطني. لذا فالمطلوب الموازنة الدقيقة بين تكامل المصالح الإقليمية مع المصالح الوطنية وعدم تضاربهما.
6. تجنب استفزاز الأطراف العالمية؛ فمنطقة الخليج، والبحرين في القلب منها، تحتل مكانة مهمة متميزة في الاستراتيجية العالمية، فهناك النفط أولا والموقع الاستراتيجي ثانيا، وهما عنصران مهمان في العلاقات الدولية، وهنا ينبغي مرة أخرى مراعاة عدم تغليب ما هو عالمي على حساب ما هو وطني. من الطبيعي أن تحاول القوى العالمية أن تجد لأقدامها مواقع داخلية من خلال القوى المحلية التي بدورها لابد أن تضع الدفاع عن مصالح الوطن فوق كل اعتبار عالمي، مهما كان حجم ونوع ذلك الاعتبار، عقائديا كان أم اقتصاديا، أم سياسيا.
تلك كانت خواطر أولية أذكتها في الذهن شدة حوارات العمل الوطني التي يتطلع نحوها المواطن البحريني معلقا عليها الآمال التي يأمل الجميع ألا تخيب، فتنعكس سلبا على مسيرة العمل الوطني، التي هي اليوم في أمسّ الحاجة إلى مكسب صغير ينزع سحابة التشاؤم التي تسيطر على نفسيته، وتنزرع مكانها بذرة الأمل التي تمده بوقود الإصرار على مواصلة الطريق.
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2425 - الأحد 26 أبريل 2009م الموافق 01 جمادى الأولى 1430هـ