العدد 2969 - الجمعة 22 أكتوبر 2010م الموافق 14 ذي القعدة 1431هـ

نظامنا التعليمي أهدر حياتنا

ياسر حارب comments [at] alwasatnews.com

كنّا جالسين في المسجد نحفظ القرآن مع أستاذ مادة التربية الإسلامية، وبينما نحن نقرأ، دخل زميلنا «إيميل» المسيحي لكي يستأذن الأستاذ بالانصراف إلى البيت حيث أنها كانت الحصة الأخيرة. وما أن وصل إيميل إلى منتصف المسجد حتى صرخنا كلّنا في وجهه صرخة رجل واحد: «كلا... كلا... لا تدخل يا إيميل... هذا حرام... أخرج، حرام» ولم يكن من إيميل المسكين إلا أن تصلّب مكانه من شدة الخوف، فنهض الأستاذ من على كرسيه وصرخ في وجوهنا صرخة أسكتتنا على الفور، ثم دعا إيميل للجلوس، إلا أنه رفض ذلك وطلب من الأستاذ بوجه ممتقع أن ينصرف، فأذِنَ له. وعندما جلس الأستاذ، سأَلَنا: «لماذا فعلتم ذلك؟» فقال له أحد الطلبة إن إيميل مسيحي، ولا يجوز له دخول المسجد لأنّه نَجِس، فتغيّر لون الأستاذ وقال: «وأين كان الرسول يستقبل وفود الكفّار؟ ألم يلتقِ بهم في المسجد النّبوي!» نزل سؤاله الاستنكاري ذلك على عقولنا الصغيرة كالصاعقة، ثم استرسل في حديثه حول وجوب احترام المسلم لجميع الناس بغض النظر عن دياناتهم، وعدم اتّهامهم بالنجاسة لأن تلك إهانة عظيمة وجرح لكرامتهم، فقال له نفس الطالب الذي انبرى له سابقاً إن الله تعالى يقول: «إنّما المُشرِكون نَجَس» فقال له الأستاذ بأن المقصود بالنجاسة هنا هو خطأ اعتقادهم بوجود آلهة أخرى غير الله وليست النجاسة البدنية، فلم يَرِدْ عن النبي (ص)، أنه أمر بغسل شيء ما مسّه غير المسلمين داخل مسجده في المدينة، ثم تلا قوله تعالى: «ولقد كرّمنا بني آدم» وقال لنا بأن هذه الآية هي دعوة واضحة لاحترام مكنون الإنسان وذاته، حتى وإن اختلفنا معه فكرياً وعقائدياً.

كان حديث ذلك الأستاذ الجليل هو حديث من العيار الثقيل على عقولنا الطريّة، وكانت تلك هي المرّة الوحيدة التي حدّثنا أحد فيها طوال اثني عشر سنة قضيناها في المدارس عن التسامح مع الآخر، فلقد كان معظم مدرسي التربية الإسلامية يتحدثون عن غير المسلمين بكراهية مقيتة، ويصفونهم بجميع الأوصاف السيئة في اللغة، حتى اقتنعنا تماماً بأننا أفضل من الناس أجمعين، على رغم تخلّفنا الفكري والصناعي والاقتصادي والسياسي والعلمي وغيره، فيكفينا أن نكون مسلمين لنشعر بالفخر والاعتزاز والتميّز عن جميع شعوب العالم. لقد كانت تلك الأحاديث التي لُقِّنَت لنا في المدرسة، مدعاة لِوَأدِ أيّ طموح تنموي وأي شعور بالحاجة إلى نهوض فكري قد تراودنا عنه نفوسنا يوماً لأننا ببساطة «أفضل أمة أخرجت للناس» وكل ما كان علينا فعله هو الرثاء لحال غير المسلمين الذين كنّا نظنّ بأنهم أسوأ منا بمراحل، فهكذا يقول التاريخ الذي كان ينتصر به أساتذتنا في كل مرة يحرز فيها المشركون نجاحاً علمياً، ونسي معلمونا الأفاضل أننا نكون خير أمّة عندما ننتج ونساهم في تنمية الإنسانية، وليس عندما نلعنها صباح مساء.

كانوا يقولون لنا ونحن صغاراً بأن الإسلام هو دين تسامح، وهو فعلاً كذلك، إلا أنهم كانوا لا يتلون علينا إلا آيات الحرب التي تأمر المسلمين بقتال المشركين، لنعتقد بأنها أوامر مطلقة لقتال كل من تخالف عقيدته عقيدتنا، ونسوا، أو تناسوا إخبارنا عن الآيات الكريمة التي تأمر المسلمين بالبرّ والإقساط للذين لم يقاتلوهم في الدِّين، حتى قال لي أحد أصدقائي بعد أن كبرنا بأنه كان يتمنى وهو صغير لو أنه وجد فرصة لكي يحمل سيفاً ويقتل أي مشرك لكي يتذوق طعم الجهاد.

أتذكر المدرسة الآن وكأنها صالة سينمائية ضخمة، نجتمع فيها كل يوم لنشاهد أفلام «آكشن» حول القتال والغزو، وكانت تلك المشاهد الدموية التي تجترّها عقولنا من حكايات بعض المعلّمين، أكثر بكثير من المشاهد الحضارية والإنسانية التي أنتجها التاريخ الإسلامي عبر العصور. ولم تكن المدرسة وحدها التي تبث تلك الأفلام الوثائقية المفبركة، بل معظم الأشياء من حولنا كانت تكرر نفس الدعوات لإراقة الدماء واستباحة الأنفس غير المسلمة، فمعظم البرامج الدينية في الإذاعة والتلفاز كانت تحض على كره غير المشركين والموالين لهم من المسلمين، وكان لفظ المشركين يرتبط دائماً باليهود والنصارى على وجه الخصوص، حتى خطب الجمعة لم تكن تخلو من نفس المشاهد ومن نفس الألفاظ القاسية والدعوة لقتلهم، ثم تختتم كالعادة بالدعاء عليهم بالإبادة الجماعية.

لم يكتفِ نظامنا التعليمي بإهدار حياتنا في تعلم مواد علمية لا نذكر منها شيئاً كالفلزّات وحساب نصف قطر الدائرة وغيرها، بل ساهمت مدارسنا في ترسيخ نزعات العنصرية المتغلغلة في نفوسنا حتى اليوم. استمع إلى أحدهم وهو يحكي عن جاره أو زميله في العمل، وستجده يشير في وسط حديثه إلى لون ذلك الجار أو عرقه دون أن يشعر، ولذلك علينا ألا نستغرب من الفتنة الطائفية الملتهبة في أرجاء المنطقة، وما هذه إلا بداية لعاصفة عنصرية شعواء، ستعيد سرد قصة معاوية وعلي مرّة أخرى. إذا كنتَ سنيّاً فلابد بأنك تستقبل على جهاز البلاكبيري أو على بريدك الإلكتروني، مرة كل أسبوع على الأقل، رسائل تحت عنوان «حقائق وأكاذيب عن الشيعة» وإذا كنت شيعياً فلابد بأنك تستقبل رسائل مشابهة لها تحت عنوان «حقيقة عداء أهل السنة للشيعة»، حتى وإن لم تكن طرفاً في هذه الحرب الطائفية، فأنت متأثر بها لا محالة، فهي نتاج غرس قديم، أُقحِمَ في عقولنا قبل عشرات السنين، وهي ربيبة شهوة سوداء تشتاق إلى تذوق طعم الدماء. إن في كل بيت من بيوتنا ابن لادن صغير ينتظر الساعة المناسبة لمقاتلة الكفار وأهل البدع، في المدرسة، وفي الملعب، وفي المقهى، وفي العمل، وما أن يصطدم معه أحد فكرياً، حتى تتفجر مشاعره المكبوتة في داخله ويتحول إلى مقاتل في تنظيم القاعدة، وإن كان بقلبه فقط.

إقرأ أيضا لـ "ياسر حارب"

العدد 2969 - الجمعة 22 أكتوبر 2010م الموافق 14 ذي القعدة 1431هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • سوسن الغانم | 10:10 م

      كلام جميل

      كلام جميل وفي الصميم
      فعلا هذا ماتعلمناه بالمدارس
      اتمنى اعادة النظر في تدريس مادة التربية الاسلامية بالمدارس لخلق جيل واعي ومثقف يتعلم كيف يتسامح ويحترم الاديان او العقائد او المذاهب الاخرى

اقرأ ايضاً