ومن المتطلبات ننتقل إلى العقبات. العقبات كثيرة ومتنوعة، تبدأ بالحضاري العام، ولا تنتهي عند الفردي الخاص. لكن يمكن حصر أهمها وأكثرها تأثيرا على أوضاع المرأة في العقبات التالية:
العقبة الأولى، يمكن أن نصفها بالحضارية، والتي تتمظهر في لحظة خروج الجنين من رحم أمه، إذ يرسم نوع الجندر الذي ينتمي له المولود معالم وأسس العلاقة بينه وبين المجتمع الذي يحيط به. يبدأ ذلك المحيط ضيقا، لكونه محصورا في نطاق العائلة، لكنه لايلبث أن يتسع كي يشمل المجتمع برمته أفرادا ومؤسسات. يعامل المولود الأنثى بطريقة دونية تجرده من الكثير من تلك التي ينعم بها نظيره الذكر. تتطور تلك بشكل طردي زمنيا، كي تصبح رويدا رويدا امتيازات اجتماعية في الأسرة، وسياسية أيضا في المجتمع. لا ينبغي أن تبهرنا بعض الحقوق الشكلية ذات الطابع التجميلي التي تحصل عليها المرأة في بعض المجتمعات الغربية، فجوهر العلاقة عند الحكم عليها بمقاييس حقوقية هي في نهاية المطاف مجحفة بين المرأة والمجتمع، وماتزال، وحتى يومنا هذا تعطي المزيد من الامتيازات للرجل، وتحرم المرأة من الكثير من حقوقها الأساسية، مدنية كانت أم سياسية. هذه العقبة تحرم المرأة من حقوقها المهنية، بما فيها حقها في العمل، الذي يقلص العمل من المنزل الكثير من أشكال التسلط المجتمعي، ويعطي المرأة، الراغبة في الانخراط في دورة الإنتاج هامشا ذاتيا أوسع من الحريات التي تبيح لها اتخاذ القرار المتعلق بالعمل أو البطالة.
العقبة الثانية، تتبأر في النظم والبرامج التعليمية، التي ما تزال تغرس في ذهن التلميذ الذكر نوعا من التفوق الجندري، الذي يبيح له في مراحل لاحقة السلوك المتعالي تجاه الجنس الآخر والذي هو الأنثى، والتي تزرع في عقليتها، تلك البرامج، الذهنية الدونية التي تشكل بدورها الأرض الخصبة المتعطشة للسلوك الذكوري المتعالي والمتقبلة، بوعي أو بدون وعي، للتعايش معه، دونما أي مظهر من مظاهر الرفض، ناهيك عن التمرد. ستبقى هذه الذهنية اللاتكافؤية سائدة، ما لم يضع حدا لها قرار جريء يجتثها من الجذور. لاشك أن العمل من المنزل، وبموجب الظروف الأكثر ملاءمة التي ولدتها ثورة الاتصالات وتقنيات المعلومات، يمكن أن يكون أحد روافد حركة اجتماعية كاسحة تساهم في تعزيز مكانة المرأة ونيلها المزيد من حقوقها. قد تكون وتيرة تأثيرات هذا العامل بطيئة، لكنها مؤثرة وتسير في خط تصاعدي إيجابي لصالح المرأة.
العقبة الثالثة تنبع من سلوك المرأة تجاه ذاتها ومن طبيعة العلاقات التي تبنيها مع جندرها. فحتى الآن، وبفضل الفكر الذكوري المسيطر، لم تنجح المرأة في حركة نسائية، ناضجة سياسيا، وراسخة مهنيا، ومتينة اقتصاديا قادرة على التصدي لهذا الفكر الذكوري والانتصار عليه. الحديث هنا لا يقف عند حالة نسائية فردية شاذة هنا، بقدر ما يرصد سلوكا نسائيا شاملا يغطي الحركة النسائية أفرادا ومؤسسات. بوسعنا الإشارة إلى حالات التمزق والتشتت التي تسود العلاقات بين المنظمات النسائية، ذات الأهداف القريبة من بعضها البعض، والتي يمكن أن نجد ما يفسر تلك الحالة، دون أن يبرر، تلك النظرة غير المتكاملة، التي تصل إلى حد التصادم، بين المؤسسات النسائية، على صعيد القطر الواحد، أو حتى على المستوى الإقليمي. ومن الطبيعي أن العمل المنزلي، والمكاسب بل وحتى الإنجازات السريعة التي يمكن أن تنتزعها المرأة من خلال ذلك العمل، ستكون من العوامل الإيجابية المهمة في زرع الثقة، ومن ثم تشجيع المرأة على تصعيد مطالبها، وتوسيع نطاقها كي يشمل قضايا نسائية ماتزال مصنفة في خانة المحرمات على المرأة، تشكل بدورها الأرضية المناسبة لتقليص الخلافات بين تلك المؤسسات في المراحل الأولى، وتعزيز التعاون فيما بينها في مراحل متقدمة.
العقبة الرابعة هي ضعف المؤسسات النسائية، ومحدودية الأهداف التي تناضل من أجل تحقيقها، على المستوى القصير العاجل، بل وحتى الطويل الآجل. وكثيرا ما نشاهد استنزاف طاقات تلك المؤسسات في مطالب تكاد أن تكون شكلية، في حين هناك إغفال شديد لتلك الأهداف ذات الطابع الاستراتيجي الذي يشكل بعدا مصيريا لواقع المرأة المأساوي. وأحد أسباب المولدة لهذه الحالة، هو محدودية مساهمة المرأة في دورة الإنتاج الاقتصادي المركزية، واستمرارها في الإنتاج والتعيش من مواقع مهنية ثانوية أو إنتاجية هامشية، عند تقييم مساهمة قطاعات الإنتاج المختلفة في الاقتصاد الكلي على الصعيد الوطني الشامل. منتجات العمل المنزلي ذات الملكية الفكرية الباهضة الثمن، والمولدة لقيمة مضافة عالية في آن من شأنها، إذا ما أحسن وضعها في خانتها الاقتصادية والإنتاجية الصحيحة، أن تعيد للمرأة الكثير من حقوقها المهضومة.
النتيجة المنطقية لكل ما تقدم هي أن العمل من المنزل أصبح، في الظروف السائدة اليوم، والمتولدة عن ثورة الاتصالات وتقنية المعلومات، قادر على خلق ظروف إيجابية أكثر ملاءمة لتعزيز مكانة المرأة في دورة الإنتاج، الأمر الذي من شأنه أن يرسخ من المكانة العالية التي تستحق أن تتبوأها المرأة على الصعيدين الاجتماعي والسياسي. لكن ليس المقصود من العمل من المنزل ذلك النمط التقليدي الذي تروج له، بوعي أو بدون وعي، بعض المؤسسات النسائية. المقصود هنا هو ذلك النوع من العمل الذي يشكل أحد ركائز الاقتصاد المعرفي القائم أساسا على إسهامات ثورة الاتصالات وتقنيات المعلومات في ذلك الاقتصاد.
قد تبدو الصورة قاتمة، والمهمة صعبة، لكن لاينبغي النظر لها على أنها مهمة آنية، بقدر ما هي حلقات مترابطة ومتكاملة، في نضال متواصل يستغرق مراحل طويلة، لكن رحلة الألف ميل تبدأ بخطوة واحدة التي ربما يكون العمل من المنزل، وليس خارج المنزل، أولها وأكثرها رسوخا
إقرأ أيضا لـ "عبيدلي العبيدلي"العدد 2424 - السبت 25 أبريل 2009م الموافق 29 ربيع الثاني 1430هـ