العدد 2424 - السبت 25 أبريل 2009م الموافق 29 ربيع الثاني 1430هـ

حاضر «الشرق الأوسط الكبير»

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

حاضر «الشرق الأوسط» الصغير أو الكبير يمر الآن في منعطف خطير قد يؤدي إلى إعادة هيكلة خريطته السياسية في حال تواصل نمو مشروع التقويض الأميركي الذي باشرته إدارة «تيار المحافظين الجدد» بذريعة الثأر من هجمات 11 سبتمبر/ أيلول 2001.

إعادة الهيكلة ليست بسيطة. ونموذج العراق يؤكد خطورة المشروع لأن عملية التفكيك والتركيب تقوم على معادلة الفرز الأهلي وتوزيع الطوائف والمذاهب والأقوام على مناطق جغرافية متجانسة تتمتع بصلاحيات إقليمية تعطيها فرصة للاستقلال الذاتي في المحافظات أو الولايات.

«النموذج العراقي» الذي أسسته إدارة جورج بوش على قاعدة «الضربة الاستباقية» بدأ خطوته الأولى بتقويض الدولة المركزية وتفكيك سلطاتها إلى مراكز قوى محلية. وبعد التقويض بدأت الخطوة الثانية (زعزعة الاستقرار) باتجاه تمزيق الهوية الوطنية المشتركة وتكوين ولاءات تلونت بالخصوصيات الأهلية. ثم جاءت الخطوة الثالثة (الفوضى البناءة) حين أخذت التكوينات والأطياف تتواجه ميدانيا ما أدى إلى تشريد أو طرد أكثر من 5 ملايين وقتل أكثر من مليون عراقي. وأدت حركة النزوح المتبادلة إلى تشكيل وحدات جغرافية سكانية متجانسة في هويتها الطائفية والمذهبية والأقوامية تنعم بنوع من الاستقرار السياسي المؤقت والمفتوح على احتمالات سيئة في فترة أخذت قوات الاحتلال الأميركية تستعد للتموضع خارج المدن تمهيدا للانسحاب أو إعادة الانتشار في السنتين المقبلتين.

«النموذج العراقي» الذي أسسته إدارة المحافظين الجديد من طريق القوة والهبوط بالمظلات يختزل الكثير من الرؤية الاسترايتجية الأميركية وأسلوب تعاملها مع منطقة «الشرق الأوسط».

الرؤية تقوم على قراءة نقدية لخريطة دول المنطقة التي تم ترسيم حدودها السياسية بعد الحرب العالمية الأولى معتمدة معايير ايديولوجية وضعها جنرالات الحرب بالتوافق مع وزراء خارجية الانتداب الفرنسي- البريطاني. وجاءت معالم الحدود تعكس توازن القوى بين الانتدابين إذ إنها خضعت ميدانيا لثنائية توزيع المصالح ولم تأخذ في الاعتبار تموضع الجماعات الأهلية وانتشارها الجغرافي وامتداداتها الثقافية أو المذهبية أو الطائفية أو الأقوامية.

نظرية إعادة الهيكلة تتخذ من التكوين غير المتجانس للدول في «الشرق الأوسط» ذريعة لسياسة التفكيك والتركيب. وبرأي تيار «المحافظين الجدد» أن تركيب الدول في شكلها الحالي أدى إلى عدم استقرارها وعطل عليها إمكانات النمو الطبيعي بسبب تضارب البنية السياسية للسلطة مع شخصية المجتمع. وعلى هذا الأساس النظري وضع «تيار المحافظين الجدد» خطة مشروع لتصحيح المعادلة حتى تنسجم السلطة السياسية مع بنية الجماعات الأهلية.

خطورة المشروع التقويضي الذي اعتمدته إدارة المحافظين في عهد بوش أنها تتجاوز حدود بلاد الرافدين وتشمل مختلف دول «الشرق الأوسط الكبير» من باكستان إلى المشرق العربي. والخطورة لا تكمن في بعدها النظري وإنما في نقل الصورة من المختبرات إلى الواقع العملي بذريعة مساعدة الشعوب على الاستقرار الأمني والنمو الاجتماعي والتطور الاقتصادي.

إدارة جديدة

الآن ومنذ نحو مئة يوم خرج تيار «المحافظين الجدد» من إدارة البيت الأبيض وبدأ الحزب الديمقراطي يمارس سلطته في إطار خطة عمل لم تتوضح معالمها. فالإدارة تجتاز الآن المرحلة الانتقالية التي يمكن أن تمتد فترتها الزمنية أو تتقلص بحسب ما تتطلبه الظروف والحاجات الأميركية وما تقتضيه توجهات الرئيس باراك أوباما.

توجهات أوباما تبدو مغايرة ولكنها محكومة استراتيجيا بالمصالح العليا للدولة التي تتحكم في آلياتهم السياسية المؤسسات الثابتة وتفرعاتها المالية والاقتصادية. فالرئيس الأميركي صاحب قرار ولكنه ليس الوحيد الذي يرسم التوجهات النهائية. فهناك نائب الرئيس ووزير الخارجية ووزير الدفاع ومؤسسات النقد والتصنيع الحربي وشركات الطاقة وأسواق المال.

التنوع في مصادر القرار الأميركي يملي على الرئيس المراجعة والمشاركة في تحديد الأولويات وخطة العمل والرؤية الاسترايتجية للعلاقات الدولية بما فيها منطقة «الشرق الأوسط» التي تعتبر الأخطر في أهميتها الجغرافية وثرواتها الطبيعية ودورها الخاص في تغذية الشرايين الحيوية للصناعات والشركات والمصارف ومحطات النقل والتجارة.

مشاركة الرئيس في أخذ القرار النهائي تدخل التعددية ومراكز القوى في صوغ التوجهات ما يعطي أهمية لرأي نائب الرئيس وموقعه في تعديل القراءات. نائب الرئيس جو بايدن يعتبر أقرب الديمقراطيين إلى الجمهوريين. فهو أيد مشروع تقسيم العراق ولم يعارض توجهات «تيار المحافظين الجدد» ورؤيتهم في إعادة هيكلة «الشرق الأوسط» وترسيم خريطته السياسية بناء على انتشار طوائفه ومذاهبه وامتداد أقوامه وقبائله.

وجود بايدن إلى جانب أوباما في السلطة السياسية الأميركية يعني أن الصورة حتى الآن لاتزال رمادية اللون وتحتاج إلى فترة زمنية لتتوضح معالمها وكيفية تعاملها مع «شريط الأزمات» الممتد من باكستان إلى المشرق العربي. فهل يقطع أوباما نهائيا مع المرحلة السابقة أم يؤسس عليها أم يعدلها أم يطورها أم يتجاوز ثغراتها ويتجاهلها أم يعيد إنتاجها مستخدما قاموسا مختلفا في لغته؟ أسئلة كثيرة يمكن وضعها ولكن حاضر «الشرق الأوسط» يبدو أنه لا يزال تحت مجهر الدراسة وإعادة البحث ويحتاج إلى فترة نقاهة للقراءة والمراجعة النقدية.

إعادة إنتاج المشروع

مشروع التقويض الكبير تجمد الآن ولكن تفصيلاته الصغيرة لاتزال واردة في حال توصلت الإدارة الجديدة إلى قناعات تنطبق عليها مواصفات عمدت واشنطن في عهد بوش على ترويجها وتسويقها وتحويلها إلى خريطة طريق في التعامل مع تعقيدات المنطقة وتضاريسها البشرية والجغرافية.

المشروع خسر الكثير من زخمه بسبب كلفته المالية والبشرية وقوة الاعتراض الدولية والإقليمية التي واجهته على مختلف المستويات. فالمشروع حتى ينجح يحتاج إلى اختراع أزمة تعطي ذريعة للتدخل الخارجي أو يتذرع بأزمة تغطي التحرك المرسوم لتوجيه «ضربة استباقية».

قراءة سريعة في حاضر خريطة «الشرق الأوسط الكبير» تشير إلى وجود الكثير من عناصر الأزمات القابلة للتفجير أو الهيئات الأهلية المستعدة للانزلاق نحو منعطفات خطيرة. فالتطرف والطائفية والتعصب المذهبي والأقوامي والقبائلي كلها صواعق تؤهل المنطقة إلى الانخراط في دوامة العنف الأهلي والدخول في دورة دموية تعطي القوى الخارجية تلك الفرصة لإنتاج ذريعة «إنسانية» أو «أمنية» أو «سياسية» أو «مصلحية» للتدخل.

ما حصل في السودان (إقليم دارفور) يشكل عينة صغيرة عن واقع مضطرب يحفر للدول الكبرى أو الهيئات والمنظمات الموازية قنوات دبلوماسية وقانونية للتعامل مع مشكلات أهلية واستخدامها تحت عناوين إنسانية والبناء عليها سياسيا لتبرير التدخل.

ما حصل في باكستان (إقليم سوات) وموافقة حكومة إسلام آباد على إعطاء المنطقة صلاحيات خاصة وحقوق استثنائية تجيز تطبيق الشريعة الإسلامية في تلك الدائرة أخذ يتفاعل عالميا وبدأت الدول الكبرى تتحرك لاحتواء تداعيات الأزمة بذريعة حماية الصواريخ والقنابل النووية من السقوط والضياع أو استيلاء المتطرفين على مخازنها ومستودعاتها.

مشروعات التدخل جاهزة والسيناريوهات تحتاج فقط إلى الذرائع حتى تغطي سياسات التقويض وإعادة الهيكلة.

التطرف (أو الإرهاب) من أدوات التدخل لأنه يعطي الذريعة لتوجيه «الضربة الاستباقية» وبعدها تأخذ آليات التقويض دورها في تحطيم الدولة (الوعاء الدستوري) وبعثرة الجماعات الأهلية إلى مناطق جغرافية متجانسة في مذاهبها وطوائفها وأقوامها وقبائلها. وسياسة تشجيع التطرف على أنواعه وألوانة تعتبر الآن مادة طيعة تستطيع الدول الكبيرة إعادة تشكيلها حتى تتناسب مع رؤيتها لخريطة «الشرق الأوسط الجديد». وحاضر الخريطة يحتضن الكثير من العصبيات المتعارضة في باكستان وأفغانستان وإيران وتركيا ودول الخليج العربية والعراق وبلاد الشام والسودان. وخطورة الحاضر أنه بدأ منذ غزو أفغانستان (2001) واحتلال العراق (2003) والعدوان على لبنان (2006) وغزة (2009) يدفع خريطة «الشرق الأوسط الكبير» نحو المزيد من التوتر السياسي المعطوف على نمو الاستقطابات الأهلية ما ينذر باحتمال انجرار التضاريس السكانية إلى تصادمات تهدد بتصدع الدول وانشطارها إلى وحدات صغرى.

المشكلة إذا مزدوجة فهي في جانب منها تعتمد على الخارج لتغذيتها أو تغطيتها وهي في جانب منها تتحرك آليا في الداخل مدفوعة بمجموعة ظروف وعوامل تتصل بطبيعة السلطات وموقعها في إدارة الدولة وسياسات التنمية وتوزيع الثروة وتراجع علاقات الثقة مع الجماعات الأهلية.

الحاضر إذا ليس مريحا. فالشرق الأوسط الصغير أو الكبير يمر في منعطف تاريخي خطير يحتاج فعلا إلى عقلية تسووية ورؤية استراتيجية لاحتواء تداعياته الأهلية وتعطيل عناصر الانفجار وصواعق التفجير. والنموذج العراقي الذي أسسه الاحتلال الأميركي وكلف خزينة واشنطن المالية مئات مليارات الدولارات لم يستقر حتى الآن في هيئته النهائية. فهذا «النموذج» عينة أميركية قابلة للتصدير في حال توجهت إدارة واشنطن الحالية نحو طور إعادة إنتاج السلطات المحلية بناء على صورة الواقع وما يحتويه من تضاريس سكانية متعارضة في عصبياتها الأهلية.

@ المقال محاضرة ألقيت أمس بمجلس الشمري في المنامة

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 2424 - السبت 25 أبريل 2009م الموافق 29 ربيع الثاني 1430هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً