بدءاً من هذا العدد سيتجه البحث والتجوال بنا عن رجال من زمن اللؤلؤ في ديرة الأطايب إلى مناطق البلاد شرقها وغربها، جنوبها وشمالها، سواحلها وقراها ومدنها، بين كل الأعراق وكل الأطياف، لن نترك القلم تحت توجيه حبر الفئوية ولا المناطقية ولا الطائفية التي لا تؤدي بالباحث إلا إلى الغي والتحيز المقيت، فالبحوث المجيرة فقط لصالح فئة أو تفوح منها رائحة الطائفية هي مقبرة البحث والباحث.
وعذراً بداية إن تم تأجيل رجل من الزلاق لظروف البحث المستمرة، ولكن هناك بين سواحل البديع والمنامة والحورة والمحرق والحد وغيرها من سواحل وقرى ومدن الديرة محطات تربط خط تجارة اللؤلؤ بينها. وفي هذه المحطة نقف بين الحد والحورة ورجل من هناك وهنا نبدأ معه الورقة الأولى.
يذكر يوسف بن أحمد المريخي في مذكراته ( ) أن أحمد بن يوسف بن هلال آل علي نسباً وابن شقر لقباً وكنية؛ من مواليد القرن التاسع عشر للميلاد، وهو من وجهاء البحرين ومن كبار تجار اللؤلؤ في منطقة الحد الساحلية. أما إيمان يوسف بوشقر - حفيدة أحمد - فتضيف أن اسم جدها هو أحمد بن يوسف بن أحمد بن هلال بوشقر، وقد زودتنا برسم تقريبي لشجرة عائلتها.
ولد أحمد بن يوسف في حواري الحد وعلى سواحلها الرملية البيضاء وتحت شمسها الساطعة ومع نسمات بحرها الغني بثروة ذلك الزمان، الذهب الأبيض، ترعرعت نفس صاحب السيرة وهو يعبر يومياً شاطئ البحر من بيته إلى الملا في المطوع الذي تعلم على يديه أصول دينه واللغة العربية مما جعله يهوى القراءة منذ نعومة أظافره.
كان وهو يطوف بساحل الحد ويشاهد الغاصة والنواخذة والطواويش في موسم غوص كل عام يتحدثون عن تلك الثروة السحرية التي تأتي من وراء اللؤلؤ لمن يملك أسرار مهنتها، يشعل ذلك الحديث في نفسه أوار حب الولوج لعالم هذا السحر الخفي ليكشف بعض أسراره. فتعلم من والده وأصدقاء والده بعض تلك الأسرار، وما ان كبر الفتي وبلغ سن الشباب حتى دخل عالم اللؤلؤ الساحر من أوسع أبوابه وبدأ بتجارة اللؤلؤ من البر وليس البحر، أي أنه تاجر بر كما يقال. كان ينتظر النواخذة والطواويش حين عودتهم من رحلة الغوص المتعبة في شهر سبتمبر/ أيلول من كل عام ليقوم بشراء اللآلئ منهم ويبيعها بسعر آخر في سوق الطواويش بالمنامة. ومن هنا فقد تعلق قلبه وعقله وتجارته بالعاصمة منذ تلك الفترة. فعزم ذات يوم على الرحيل عن الحد موطنه الأول لمقتضيات المهنة والرزق، حيث إن جل حركة الشراء والبيع للؤلؤ وتصديره للهند كانت تتم في العاصمة المنامة وبها كبار علية القوم ومتاجرها.
كان ذلك فيما بين عامي 1912- 1915، وكانت الحورة هي اختياره الأول من بين أحياء ضواحي المنامة القريبة من البحر، هواه وعشقه الأول منذ كان في الحد. ولكن واجهته مشكلة عائلية بسبب هذا الاختيار، ذلك أن والده يوسف بن هلال رفض الانتقال معه إلى البيت الجديد. فماذا يفعل؟ هداه تفكيره وبوصلته الروحية لبناء مسجد أمام بيته الكائن في الحورة - كما في الصورة - لكي يقرب المسافة بين رأيه وإصرار والده على عدم الانتقال من الحد إلى الحورة. ذلك أن سبب رفض الأخير للانتقال هو بحجة أن مسجد الحورة الوحيد آنذاك يبعد عن السكن الذي اختاره أحمد في «حالة بني أنس» بمسافة كبيرة لا يستطيع الولد قطعها ليصلي في المسجد وهو الذي لم يصلِ في بيته قط إلا بسبب حالة مرضية طارئة فقط.
هكذا كان أحمد وفياً لوالده يوسف بن هلال وطالباً لراحته وتقديراً لكبر سنه ومن فرط حبه لأن يكون بقربه ليتبارك بوجوده معه؛ فقد أقام ذلك المسجد بقرب بيته وقد بني من سعف النخيل بداية. كما بنى لوالده وله مجلساً بجانب المسجد وبعد وفاة والده في الحورة أعاد بناء ذلك المسجد بالطين والحجارة البحرية في نهاية الثلاثينيات ومطلع الأربعينيات حتى صار من أهم مساجد الحورة فيما بعد خصوصاً بعد أن وهب له الشيخ سلمان بن حمد الأرض التي بقربه لتكون وقفاً لصالح شئون المسجد المذكور. وقد أصبح اسم المسجد اليوم بعد إعادة تجديده «حلقات مسجد بوشقر». عاصر أحمد بن يوسف بوشقر فترة الشيخ عيسى بن علي آل خليفة الذي تولى الحكم في البحرين العام 1869 وتوفي العام 1932، كما عاصر سنوات من عهد الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة.
بدأ أحمد بوشقر حياته العملية في تجارة اللؤلؤ في الحد منذ شبابه الأول وكان أعز أصدقائه تاجر لؤلؤ يدعى شاهين بن صقر والدليل على ذلك أنه قد خصه برسالة وحيدة بعث بها من الهند العام 1923 عندما تعرض لعملية نصب واحتيال - سنوردها لاحقاً - يشكو له فيها لواعجه وهمومه.
دارت الأيام سريعاً وأصبح أحمد بوشقر من كبار تجار اللؤلؤ في البحرين والهند، ولذا فلم يبخل على أهل زمانه من مواطني الديرة كافة حين ألمت بهم فاجعة الحرب العالمية الثانية وما صاحبها من شح في المواد الغذائية بسبب تعطل طرق التجارة الدولية وخصوصاً بين الهند والخليج. فكيف وقف أحمد بوشقر مع بني وطنه في تلك المحنة؟
يتبع...
العدد 2967 - الأربعاء 20 أكتوبر 2010م الموافق 12 ذي القعدة 1431هـ