تناولنا في الفصل السابق أهم القبائل العربية من مجموعة تلك القبائل التي عرفت بالباقية والتي سكنت شرق الجزيرة العربية وقلنا إنها بدأت بقبيلة قضاعة ثم الأزد وإياد وتنوخ وعبدقيس وبكر وتغلب أبناء وائل وتميم, وقد تناولنا بعض تلك القبائل في الفصل السابق وفي هذا الفصل نكمل الحديث عن باقي القبائل.
يتفق العديد من الكتاب أن تنوخ تعني ائتلاف مجموعة من القبائل وأن الاسم اشتق في الأساس من كلمة مشتقة من أناخ, وأناخ الجمل أي أبركه وأناخ فلان بالمكان أي أقام به. إلا أن جواد علي في كتابه «المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام» يرى أن «تنوخ» اسم علم واشتقاقه اللغوي مجرد خيال كزعم البعض عن أصل كلمة الأنباط:
«أما ما زعمه أهل الأخبار في معنى تنوخ، فقد أشرت مرارًا إلى جنوح الأخباريين إلى أمثال هذه التفاسير، حين ترسو سفينة علمهم على شاطئ الجهل بالأشياء. وما تنوخ في نظري إلا «Tanueitae» أو «Thanuitae» القبيلة التي ذكرها «بطلميوس» في جملة القبائل التي كانت في أيامه. وهي وإن كانت في جغرافيته في مواضع بعيدة عن الحيرة غير أن ذلك لا يمنع من انتقال بطون منها إلى الحيرة وبادية الشام وإقامتها فيها، وهو حادث مألوف ليس بغريب، أو أنها كانت في هذه المواضع في أيام «بطلميوس» كما كانت بطون منها تقيم في المواضع التي ذكرها أو أنه أخطأ في تعيين مواضعها الصحيحة فظن أنها حيث وضعها من الأماكن، وهو أمر ليس وقوعه من الكتاب في الزمن الحاضر بغريب، فكيف بالنسبة إلى تلك الأيام». (علي 1993, ج3, ص 169).
وسواء كان اسم تنوخ اسم علم أو اسم حلف من القبائل مشتق من عملية التنوخ، إلا أن ذلك لا يمنع أن تكون قبيلة تسمى تنوخ كونت حلفاً مع قبائل أخرى.
المرجح من كلام الأخباريين أن عدداً من القبائل من أبناء معد نزلوا البحرين وقت التقت في البحرين بقبائل أخرى كانت سكنت قبلهم وهي: الأزد وقنص بن معد بن عدنان ومن ولد إياد بن نزار بن معد بن عدنان، وهكذا اجتمع بالبحرين جماعة من قبائل العرب، فتحالفوا على التنوخ، وهو المقام، وتعاقدوا على التوازر والتناصر، فصاروا يدًا على الناس، وضمهم اسم تنوخ (علي 1993, ج3, ص 166 - 167). وكما أسلفنا سابقاً أن جواد علي يرى أن تنوخ اسم قبيلة بعينها اجتمعت بالقبائل المعروفة الاسم وربما انضم لها عدد من تلك القبائل فتوهم البعض أن تنوخ اسم الحلف وليس اسم القبيلة. وقد انتقلت قبيلة تنوخ من البحرين وسكنت في أطراف الحيرة ولم تكن حينها قد تحضرت حيث يرى جواد علي أن التنوخيين كانوا «أعراب الحيرة، لا حضرها وأهل مدرها، وكانوا يعيشون في أطرافها وحولها، في بيوت الشعر والمظال» (علي 1993, ج3, ص 169). وهو يعتمد في ذلك على رواية ابن الكلبي التي تناقلها الأخباريون حيث «روى ابن الكلبي أن كثيرًا من تنوخ نزلوا الأنبار والحيرة وما بين الحيرة وطف الفرات وغربيه إلى ناحية الأنبار وما والاها. نزلوا في المظال والأخبية لا يسكنون بيوت المدر، ولا يزاوجون أهلها. وكانوا يسمون «عرب الضاحية». فكان أول من ملك منهم في زمان الطوائف مالك بن فهم، وكان منزله مما يلي الأنبار، ثم مات مالك بن فهم، فملك من بعده أخوه عمرو بن فهم، ثم هلك عمرو بن فهم، فملك من بعده جذيمة الأبرش بن مالك بن فهم بن غانم بن دوس الأزدي» (علي 1993, ج3, ص 168).
المرجح أن جماعة من التنوخيين قاموا بتأسيس سلالة بني لخم أو اللخميين أو المناذرة الذين حكموا الحيرة وتبوأوا مركزهم كتابعين للملك الساساني, وينسب المناذرة إلى جذيمة الأبرش والذي عرف باسم «ملك تنوخ» بحسب نقش يوناني نبطي عثر عليه في أم الجمال في سورية (بوتس 2003: ج 2, ص 1004). وقد قتل جذيمة على يد زنوبيا ملكة تدمر العام 268م وقد خلفه ابن أخته عمرو بن عدي والذي يعتبر تقليدياً أول ملك لخمي (بوتس 2003: ج 2, ص 1004). وهناك من يرى أن فرع من قبيلة عبدالقيس ساهم في بناء الحيرة وكونت جماعة منهم الجزء الحضري في الحيرة، حيث إن أهل الحيرة عرب، ويقسمهم الأخباريون إلى ثلاث طبقات: تنوخ، والعباد، والأحلاف وهؤلاء في نظرهم من قبائل متعددة، فيها من قحطان وفيها من عدنان, ويعتبر العباد الجزء الحضري ويقول معظم الأخباريين إنهم كانوا على دين المسيح ومنهم من يرجح أنهم من عبدالقيس (علي 1993, ج3, ص 166 - 170).
تنتمي قبيلة عبدالقيس إلى أفصى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد, ورواية هجرتهم إلى شرق الجزيرة العربية متواترة عند الأخباريين, ونقتبسها هنا عن البكري في كتابه «معجم ما استعجم»: «ثم إن بني عامر بن الحارث بن أنمار بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبدالقيس، أصابت عامراً الضحيان بن سعد بن الخزرج بن تيم الله بن النمر بن قاسط، وكان عامر منزل ربيعة في انتجاعهم، وصاحب مرباعهم، فقتلوه بغير دم أصابه، فقالت النمر وأولاد قاسط - وفيهم كان البيت يومئذ - لعبدالقيس: يا إخوتنا، قتلتم صاحبنا وانتهكتم حرمتنا، فإما أنصفتمونا وأعطيتمونا بطائلتنا، أو ناجزناكم فمشت السفراء بينهم، فاصطلحوا على أن تتحمل عبدالقيس دية الرئيس، وهي عشر ديات، فصار من ذلك على بني عامر خمس مئة بعير، وعلى بقية عبدالقيس خمس مئة، وأعطوهم رهناً بالدية، خمسة نفر من بني عامر، وأربعة من أبناء عبدالقيس، فأدت بنو عامر الخمس مئة، وافتكوا رهنهم، وتراخى سائر ولد عبدالقيس في افتكاك رهنهم، فعدت عليهم النمر، فقتلتهم، وخلوا سبيل المرأة، فجمعت لهم عبدالقيس، وقالوا لهم: اعتديتم يا قومنا: أخذتم الأموال وقتلتم الأنفس. فهذه أول حرب وقعت بين بني ربيعة، فاقتتلوا قتالاً شديداً، فكان الفناء والهلاك في النمر، وخرجت الرياسة عنهم، فصارت في بني يشكر. فتفرقت ربيعة في تلك الحرب وتمايزت، فارتحلت عبدالقيس وشن بن أفصى ومن معهم، وبعثوا الرواد مرتادين، فاختاروا البحرين وهجر، وضاموا من بها من إياد والأزد، وشدوا خيلهم بكرانيف النخل، فقالت إياد: أترضون أن توثق عبدالقيس خيلها بنخلكم؟ فقال قائل: عرف النخل أهله، فذهبت مثلاً. وأجلت عبدالقيس إياد عن تلك البلاد، فساروا نحو العراق، وتبعتهم شن بن أفصى... فغلبت عبدالقيس على البحرين، واقتسموها بينهم. فنزلت جذيمة بن عوف بن بكر بن عوف بن أنمار بن عمرو بن وديعة بن لكيز بن أفصى بن عبدالقيس، الخط وأعناءها. ونزلت شن بن أفصى بن عبدالقيس طرفها وأدناها إلى العراق. ونزلت نكرة بن لكيز بن أفصى بن عبدالقيس وسط القطيف وما حوله (البكري, عالم الكتب ط3, 1983, ج1, ص 80 - 81).
لا نعلم بالتحديد متى وطأت أقدام عبدالقيس أرض البحرين ولكن يمكن تحديد فترة زمنية معينة وذلك بسبب ذكر حوادث موازية لزمن دخول عبدالقيس البحرين يمكن تأريخها، والمرجح أن قبيلة عبدالقيس دخلت البحرين بعد خروج تنوخ منها وقامت عبدالقيس بطرد ما تبقى بما عرف بحلف تنوخ من البحرين والمتمثل في إياد والأزد. وفي حال قبلنا بترجيح رواية دانيال بوتس ومن سار على نهجه والذي يرى أن الاسم Abucaie الذي ذكره بطليموس العام 150م والذي يرتبط بشرق الجزيرة العربية هو اسم يشير إلى قبيلة عبدالقيس (بوتس 2003: ج 2, ص 986, ص 990) فهذا يعني أن قبيلة عبدالقيس قدمت للبحرين قبل العام 150م. أما في حال تم رفض هذا الترجيح فيمكن الأخذ برواية الطبري والتي وردت فيها أول إشارة تدل على وجود قبيلة عبدالقيس في البحرين في زمن سابور أو شابور ذي الأكتاف (سابور الثاني) إذ عندما كان صغيراً عبرت جموع من عبدالقيس وغزت الفرس في أرضها وبقيت زمناً طويلاً فيها إلى أن اشتد ساعد الملك فعبر الخليج، ونكل بعبدالقيس والقبائل الأخرى، وإذا ما علمنا أن سابوراً الفارسي حكم بين (309 - 379)، أدركنا أن عبدالقيس أتت إلى المنطقة في القرن الثالث الميلادي ويؤيد ما نذهب إليه من أن قسماً من مؤسسي الحيرة كانوا من عبدالقيس (كما ذكرنا سابقاً) بل ساهموا مساهمة فعالة في نشأتها، وكما تشير بعض المصادر إلى أن غزو عبدالقيس لفارس جاء بناء على رغبة ملك الحيرة امرئ القيس بن عمرو الذي كان يطمع في تأسيس امبراطورية عربية واسعة، تضم جميع المنطقة الشرقية وتشمل مختلف جهات الخليج العربي، ويكون مركزها الحيرة (المعيني 2002, ص 36 - 37)
تنتسب كلا القبيلتين لقاسط بن هنب بن أصفى بن دعمي بن جديلة بن أسد بن ربيعة بن نزار بن معد, والمرجح أن فروعاً من هاتين القبيلتين سكنوا البحرين، وامتدت رقعة الأرض التي كانت عليها فروع من بكر من وائل من شمال البحرين وحتى منطقة اليمامة، ويبدو أن العشائر والبطون البكرية كانت بدوية ساهمت بنصيب جيد في النواحي الحضارية، وكان موقف البكريين معادياً للإسلام ومنهم الحطم البكري الذي قاتله العلاء الحضرمي ومن هذه القبيلة اشتهر شعراء كثيرون في مقدمتهم طرفة بن العبد (المعيني 2002, ص 35).
ويرى دانيال بوتس في بحثه عن سماهيج أن كلاً من بكر بن وائل وتغلب بن وائل سكنا شرق الجزيرة العربية في عهد سابور الثاني وبالتحديد العام 325م فقد ذكر راوية عن الطبري أن سابور قاتل بكر بن وائل في شرق الجزيرة العربية وانه قاتل تغلب بن وائل في الشمال واسكنهم جزيرة أوال وشرق الجزيرة العربية (بوتس 1986).
إلا أن فضل العماري في بحثه عن «أوال» لا يرجح وجود القبيلتين في شرق الجزيرة العربية في قرون مبكرة بعد الميلاد حيث يقول: «والمعلوم المؤكد أن تغلب بن وائل - وكذلك بكر بن وائل - لم تسكنا هذه المنطقة في فترة قديمة قبل الإسلام فتغلب كانت في وسط نجد, في أعلاه, حتى أوائل القرن السادس الميلادي, ثم زحفت شمالاً متجهة نحو شمالي العراق, وكذلك بكر, ولأن بكر قبيلة ضخمة فقد انتشرت بعض عشائرها في بادية البحرين القديمة» (العماري 2009ب).
تنتسب تميم لمر بن إد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن معد وتعتبر من أكبر القبائل العربية وقد استوطنت بعض عشائرها البحرين وإلى الغرب من منازل عبدالقيس وكانت تعيش في الدهناء وهضبة نجد، ومن الذين خالطوا عبدالقيس في منازلهم في البحرين بنو سعد بن زيد مناة من تميم (وكانوا من أعدائهم)، ونزلت طائفة من هؤلاء في عمان ومن بطونهم بنو دارم بن مالك بن حنظلة، والذين ينسب إليهم المنذر بن ساوى (المعيني 2002, ص 35).
تعتبر لغة القبائل النزارية, ومنها تلك التي نزلت شرق الجزيرة العربية, اللغة العربية الباقية القديمة وهي لغة نقوش أيضاً لكنها اللغة العربية الأقرب للفصحى (Macdonald 2008), وعلى الرغم أن لغة النقوش عربية فصحى إلا أنها كتبت بحروف نبطية مع بعض التأثر بالآرامية (علي 1993, ج3, ص 166) ومن أشهر نقوش هذه اللغة نقش النمارة الذي عثرت عليه البعثة الفرنسية في مطلع القرن العشرين في قرية النمارة شرقي جبل العرب بسورية, وهو عبارة عن نقش قبر أمرئ القيس بن عمر بن عدي المتوفى العام 328م والذي خلف أباه وأصبح ملك الحيرة ولقب بملك العرب لأنه عين من قبل الساسانيين عاملاً على القبائل العربية الشمالية (بوتس 2003: ج2, ص 1008). ولغة نقش النمارة عربية صرفة باستثناء استخدام كلمة «بر» وهي من الآرامية بمعنى (ابن) بدلاً من كلمة «بن» (البني 2001).
العدد 2967 - الأربعاء 20 أكتوبر 2010م الموافق 12 ذي القعدة 1431هـ