بعد النجاح «استحقاق وليس حقا» و«الطلاب بين الأهبة والرهبة» أمازال شيء لم نقله عن الامتحانات؟ قد يكون العنوان هذه المرة منبئا بجديد بل غريب. فكيف يكرم الطالب يوم الامتحان وكيف يهان؟ الكلمتان في هذه الجملة البليغة تحملان معاني كثيرة؛ لطالما مثّل الامتحان مناسبة أثيرة لأولياء الأمور لإكرام أبنائهم، وتتراوح درجات هذا الإكرام ما بين مادي ومعنوي إذ يكون الماديّ بالهدايا باختلاف أنواعها الماديّة، أما الإكرام المعنويّ فهو الكلمة الطيّبة والدعاء الحسن والشكر والثناء على مجهود ذلك الطالب وما قدّمه وما أحرزه من نتائج خلال الامتحانات. والأمر سيّان من جهة الإهانة فهي أيضا لها شقّان: شقّ ماديّ كالضرب والحرمان من مستلذّات ومستحبّات الطالب الفاشل، وشقّ معنويّ يظهر في التأنيب والتوبيخ. إلى هذا الحد لا اعتراض والأمور عادية والمثل لا يزال صالحا لا لبس فيه. لكن تشاء أقدار هذا الزمان أن تأتينا بالعجيب في مسألة الإكرام، ليس لأنّ بعض الأولياء يغدقون على أولادهم الناجحين بإكراميات تفوق قيمتها أحيانا أهمية الحدث نفسه، ولكن لأنّ الطالب في أكثر من عائلة ومهما اختلف المستوى المعيشيّ لهذه العائلة أو تلك صار يدخل في عمليّات مقايضة؛ بمعنى أدقّ صار الطالب لا يجد حرجا حين يطلب المكرمة أو الهديّة أو لنقل المقابل الماديّ قبل الامتحان، يطلبه بل ويلزم الأولياء بتحقيقه حتى يعمل ويجتهد فيحرز نتائج باهرة ويحصل على تقدير ممتاز. إن الجزاء الحسن من أساليب التعزيز التي لا ينكرها اثنان ولا يختلف فيها باحثان. غير أن التحوّل إلى النقيض يغدو أمرا محيّرا! قد لا نجد تفسيرا لهذا الأمر الخطير إلا في المثل القائل «الشيء إذا وصل إلى حدّه انقلب ضدّه» فكيف ذلك؟ الأولياء الكرام – جزاهم الله خيرا - يكرمون أولادهم كلّ بما استطاع إلى ذلك سبيلا من أجل الامتياز بل أحيانا مجرد النجاح بل وصار الأولياء وخاصة الأمّهات يتنافسن فيما بينهنّ في نوعية هذه الهدايا وقيمتها إلى درجة جعلت الأولاد يتعمّدون المقايضة فيجعلون الهدايا الفاخرة والمعتبرة غايتهم ليفاخروا بها بين أصدقائهم... فبعد أن كان الأب يقدم الهدية شرط حصول ابنه على معدّل ممتاز، انقلبت القيم المجتمعية وصار الابن لا يجهد نفسه ولا يشقى من أجل الامتياز إلا إذا حصل على ضمانات شبه رسمية بتوفير مكرمة بعينها أو هدية محددة. بل تصل الوقاحة ببعضهم أحيانا أن يفرض سلطانه على بعض الأولياء فيشترط وجود هذه اللعبة أو تلك الهديّة وبالذات قبل انطلاق فترة الامتحانات. وفي مثل هذه الوضعية المجتمعية الجديدة، ومع انقلاب القيم أو انفلاتها لا يمكن أن نحلل الجزء الباقي من الحكمة «... أو يهان» فهذا الطالب وباعتبار ما تقدم من وصف وتحليل لا يهان لأنه بعقليته البرغماتية المتطرّفة صار كمن قيل فيه «داخل في الربح خارج من الخسارة» كما تقول بعض الأمثال العالميّة. إذن من يهان في هذه الحالة؟ هو بالطبع وليّ الأمر الذي يخضع ويطيع وينفذ طلبات الابن بل شروطه. نعم يهان فيما بينه وبين نفسه ذلك أنّ الابن حين يفشل في تحقيق التفوق أو حتى النجاح فإنّه يكتشف أن عملية البيع والشراء قد أهانته وأذلّته فلا يبحثنّ بعد ذلك عن أعذار واهية تتصل بعناصر الامتحان الأخرى كالمدرس والمصحح وغيره... لكن الحقيقة أنّه «مثلما تزرع تحصد». إنّ العلم والتعلّم والمعرفة عموما قيمة إنسانية لابدّ أن تترسّخ لذاتها في أولادنا وبناتنا في المدارس والجامعات. نعم حب العلم لبناء الذات، حب العلم لبناء الوطن، نعم حب العلم لرسم طريق الجنة. إنّ التعلّم من أجل الآخر أو لأجل مكرمة يخلق في طلابنا نفوسا ضعيفة لا يمكن أن تنهض بأعباء مجتمعيّة ولا يمكن أن تحمل المشعل يوما أو تكون لها القيادة. إنّ الريادة تكون لمن جعل العلم سراجا يضيء دربه ليضيء درب الآخرين.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"