كان لي صديق مغامر، جمعتني به الدنيا سنين طويلة، فكان يتحدث عن شقاوته أيام الطفولة والصبا. من تلك الأحاديث الكثيرة لا أنسى طريقة ذبحه الطيور "على الطريقة الإسلامية"! في أيام طفولته، كانت المزارع والبساتين تزدحم بالطيور والبلابل والعصافير المغردة. وكان صاحبنا ينصب فخاخا ليصطادها، بعد أن يضع لها بعض الحشرات والديدان التي تحب طمعها بالفلفل والبهارات! فإذا ظفر بالطير أمسكه من رجليه، ثم وضع عنقه بين إصبعيه وضغط بقوة، ثم لوح به في الهواء عاليا ليهوي به على ركبته حتى ينفصل رأسه عن جثته بضربة واحدة. وفي لحظة الذبح، لم يكن يفوته أن يردد: "بسم الله والله أكبر"، لكي يكون الذبح على الطريقة الإسلامية الكاملة! كانت هناك فترة زمنية تفصل بين تاريخ المغامرة وتاريخ الرواية، تتجاوز العقدين، فكان يرويها من باب الطرفة والتعليق على الذات. كما كان يضحك أكثر حين يتذكر كيف كان يتلو البسملة لتوفير شرائط الذبح الحلال، تبرئة لذمته أمام الله! ومع أني لم أكن من هواة اصطياد الطيور أو ذبحها، إلا أن تفاصيل عملية "الذبح" حفظتها لكثرة ما سمعتها منه، حتى كنت أتخيل أعداد العصافير التي فصل رؤوسها عن أجسادها بهذه الصورة البشعة وهو ما كان يراكم تقززي من صنيعه. في تلك الفترة، كنت أقرأ بروية أبا العلاء المعري في لزومياته، وكنت أتأثر كثيرا بأفكار فيلسوف الشعراء، التي تعبر عن شفقته على المخلوقات التي تدب على هذه الأرض، بما ينم عن قلب شفيق وشعور رقيق. أبوالعلاء اتهمه معاصروه بالكفر والتجديف على الله، وحار العلماء في أمره، بين من يدخله الجنة وبين من يحرقه بالنار. ولكن من ألطف أبيات الشعر العربي التي قرأته، بيته الذي فيه يقول: إن ختم الله بغفرانه فكل ما لاقيتـه يسهل وأنت تتأمل في أحوال الناس والسياسة في بلادنا، تجد قلوبا أصلب من الحجر، كأنها قدت من الجلاميد. وفي الإعلام "العروبي" الطائش المراهق، تجد تبريرا يوميا للقتل، يساير الفكر التفكيري الذي يحل دماء المسلمين ويحرم دماء الطيور. في لقاء قبل ليلتين، مع أحد هذه النماذج التكفيرية الخارجة عن القانون والشرائع والأديان، كان وحش عراقي يعترف أمام الملأ بأنه قتل مواطنا آخر مع زوجته لأنهما كانا يخالفانه في الفكر والموقف السياسي. واعترف انه شارك مع مجموعته في اختطاف مجموعة من المدرسات العراقيات، واحتجزوهن لمدة يومين عرضوهن خلالها للذل والمهانة والاغتصاب، ثم ذبحوهن بدم بارد. ولما انتهت العملية "الجهادية" عاد إلى أسرته، إذ كانت تنتظره زوجته وأولاده العشرة. ولم ينس في تلك الساعة أن يقف أمام ربه لأداء الصلاة! عندما سأله مذيع الفضائية العراقية عن السبب قال: "إننا نجاهد ضد الأميركان". فسأله: وما دخل المدرسات العراقيات بالأميركان؟ أخذت عيناه تتنقلان بين الأرض والسماء كالذي يغشى عليه من الموت. ما الذي يوصل ابن آدم إلى هذه الدرجة من التوحش؟ ما الذي ينسيه القيم والأخلاق؟ ما الذي يقسي قلبه فيصبح والصخرة الصماء سواء؟
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1120 - الخميس 29 سبتمبر 2005م الموافق 25 شعبان 1426هـ