أبدى المرجع الديني السيدمحمدحسين فضل الله، خشيته من أن العبث الأميركي بالمسألة اللبنانية والذي يواجه بلا مبالاة أو بدعوات لتوسعة حركته قد يدخل البلد في فوضى سياسية واهتزازات أمنية تستدعي تدخلات دولية جديدة بعدما جرى إدخال لبنان في تجاذبات المنطقة. وحذر من أن لبنان بات يمثل البطن الرخو للمشروع الأميركي، منتقدا الانبهار بالآخر والانسحاق أمامه، داعيا إلى التصدي لذلك وإن كان هذا الآخر يمثل موقعا علميا أو سياسيا أو حتى قضائيا. جاء ذلك في إطار رده على سؤال في ندوته الأسبوعية عن نظرة الإسلام إلى حالات تقديس الأشخاص والانبهار بالرموز؛ فأجاب فيما يأتي. لم يقف الإسلام موقفا سلبيا من طموحات الإنسان وسعيه ليكون في موقع الوجاهة أو السلطة، أو ليحتل مكانا مرموقا في المجتمع، بل اعتبر هذه الطموحات مشروعة، كونها طبيعية ولا تبتعد عن الجانب الفطري والذاتي فيما هي مكونات الشخصية الإنسانية. لكن الإسلام وضع برنامجا لحركة هذه الطموحات كي لا تصبح خطرا على الشخصية وعلى المجتمع، فركز على صوغ الشخصية صوغا متوازنا، وعلى بنائها الفكري والاجتماعي لتمتلئ فكرا وحيوية وعطاء، ولا تكون مجرد ذات تتضخم وتتورم من دون محتوى. إن هذا التضخم في الشخصية آفة لها انعكاسات مدمرة على واقعنا العربي والإسلامي، إذ أسس لظاهرة الفرعونية الظالمة والطاغوتية المستبدة، التي تحاصر شعبها وتجمد طاقاته وتستخف بعقوله على طريقة فرعون في السيطرة على شعبه من خلال مصادرة عقولهم، فأسس للاستبداد السياسي والقمع السلطوي، قال تعالى: "فاستخف قومه فأطاعوه" "الزخرف: 54"، وهكذا اختصر قومه بشخصه، وغدا يفكر لهم وعنهم من دون أن يكون لهم أي دور حتى على مستوى التفكير بوجودهم ومستقبلهم: "لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد" "غافر: 29". إن تعطيل العقول والاستخفاف بها وبدورها هو الذي قاد ويقود إلى تعظيم بعض الشخصيات وتقديسها بطريقة تلامس الصنمية والوثنية، وتخرج القيادات والأشخاص عن دائرة النقد والاعتراض لتمنحهم منزلة العصمة التي هي منزلة لم يمنحها الله إلا لطبقة خاصة من الأنبياء والأئمة، وفي المقابل يريد الإسلام من المستضعفين ألا ينسحقوا أمام المستكبرين، وأن يعيشوا الإحساس بإمكان الخلاص من ضغطهم ومن مشروعاتهم مهما كانت الظروف صعبة مستصعبة. لقد وضع الإسلام منهاجا متكاملا في تذويب الشخصية في خط الرسالة، لتكون الرسالة قبل الذات، إذ أكد الإسلام أن قيمة أية شخصية هي فيما تحمله من معاني الفضيلة والتقى، وما تقدمه للبشرية من خدمات علمية أو تكنولوجية أو غيرها. وفي المقابل، حث الإسلام الناس على عدم الانسحاق أمام أي شخص مهما علا شأنه، وقد نبذ بعض مظاهر الخضوع أمام الشخصيات القيادية كالسجود أو الركوع أو غيرها من أشكال التذلل، وأراد للإنسان أن يكون عزيزا أمام الناس وعبدا أمام الله وحده، بل أراد للأمة أن تنتقد الحاكم وتقف بوجهه وتواجهه بكلمة الحق من دون أي نوع من أنواع المهابة، فإن "أفضل الجهاد كلمة حق أمام سلطان جائر"، حتى أن الحاكم المسلم الذي يأخذ بأسباب العدل في حكمه هو بحاجة دائمة إلى نصيحة الأمة، لأن موقعه لا يعطيه حقا في استعباد الناس، بل هو الأمين على مصالحهم، وللأمة أن تتحفظ عنه في كل ما يخرجه عن هذا الدور. ثم إن هذا التعامل النقدي مع الحاكم ينسحب على كل الشرائح التي تملك موقعا مميزا في وجدان الأمة وضمير الناس، كما هو حال العلماء الذين يمثلون أهل اختصاص في الفكر والفقه الإسلامي، وهو ما يجعل قيمتهم مستمدة بمقدار ما يملكونه من علم وما يحركونه في حياة الناس وما يجسدونه من التزام بآفاق العلم والقيم. وخارج ذلك فإنهم لا يملكون قداسة ذاتية تمنع من توجيه النقد لهم ومحاسبتهم على أخطائهم، وإذا كان علي "ع" وهو المعصوم يدعو الأمة إلى ممارسة حقها في النقد حياله، فنحن لا نعتقد أن هناك من هو خارج نطاق هذا النقد مهما ارتفع موقعه بين العلماء وسمت مكانته بين الأسماء. إن العلماء ورجال الدين من مسلمين أو مسيحيين أو غيرهم ليسوا ظل الله على الأرض حتى نمنحهم القداسة التي لا يستحقونها، ونتعاطى معهم كآلهة صغار، ونخضع لهم خضوع العبد لسيده ونطيعهم طاعة عمياء ونمنحهم من الألقاب الفضفاضة الكبيرة ما لا يحملون مضمونه على طريقة الشاعر: مما يزهدني في أرض أندلس ألقاب معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخا صولة الأسد إن علينا كمسلمين ألا نعيش عقدة الانبهار بالآخر أو الانسحاق أمامه بصرف النظر عن الموقع الذي يملأه، وألا نخضع لكل ما يقوله على أساس أنه الحق، حتى وإن كان هذا الشخص يمثل موقعا علميا أو سياسيا أو قضائيا، وخصوصا أننا، في كثير من تجاربنا الماضية، كنا الضحايا لهذه الثقة المفرطة بالآخرين الذين انطلقوا من حساباتهم الذاتية أو السياسية لتكون قضايانا ضحية هذه الحسابات. إننا نلمح صمتا عند بعض المواقع اللبنانية وموافقة عند مواقع أخرى على التدخل الأميركي في مفاصل الأمور في لبنان، انطلاقا من هذا الانسحاق أمام أميركا ومن هذا التضخيم لدورها وسطوتها وقوتها، ما انعكس موافقة على توجيه الحركة السياسية العامة للبلد في إطار ما ترسمه الإدارة الأميركية للمنطقة، وهو ما قد يعيدنا إلى ما كانت "إسرائيل" تشترطه على لبنان أو إلى تغيير في طبيعة الدور الذي كان يشكله البلد ونريده أن يستمر في سلوكه في نطاق مسئولياته العربية والإسلامية. إننا ندرك تماما أن لبنان بات يمثل البطن الرخو للمشروع الأميركي الذي يضغط عليه ليحصل على نتائج لمصلحة احتلاله للعراق أو لمصلحة الاحتلال الإسرائيلي في فلسطين، ولذلك سيستمر الاهتمام الإعلامي والسياسي الأميركي بلبنان من زاوية الترويج لعناوين الديمقراطية والحرية التي فشلت أميركا في ترجمة أي شيء من تلاوينها في العراق أو المنطقة، وتعمل على تسويتها بطريقة مكشوفة في لبنان. إننا نحذر من هذا العبث الأميركي بالمسألة اللبنانية الذي يواجه بحال من اللامبالاة تارة، أو بدعوات لتوسعة حركته أخرى، لأن ذلك يدخل البلد في فوضى سياسية جديدة تؤسس لفوضى اقتصادية، وقد تصل مؤثراتها إلى الجانب الأمني في اهتزازات يراد لها أن تستدعي تدخلات دولية وإقليمية جديدة في الساحة اللبنانية التي جرى إدخالها في تجاذبات المنطقة كلها، وقد تدخل في متاهات أخرى ما لم يتحرك العقلاء من كل الطوائف ليقطعوا الطريق على التدخلات الخارجية التي تريد للبوصلة اللبنانية أن تدخل في النطاق الإسرائيلي من نافذة القرار .1559
إقرأ أيضا لـ "السيد محمد حسين فضل الله"العدد 1120 - الخميس 29 سبتمبر 2005م الموافق 25 شعبان 1426هـ