العدد 1119 - الأربعاء 28 سبتمبر 2005م الموافق 24 شعبان 1426هـ

حمشر

بإمكاننا نحن الحمير ان نتحول إلى أي مخلوق نشاء، هذه حقيقة يعرفها جميع الحمير من دون استثناء. فبإمكان اي حمار أن يصبح ملك الغابة، تصوروا حمارا تنتصب أذناه إلى أعلى وتتدلى كرشه إلى أسفل وتنتفخ جحفلتاه انتفاخ الغرور يستطيع أن يصبح ملك الغاب أسدا هصورا في أي لحظة يشاء، ويستطيع أن يصبح من أدهى دهاة الغاب إذا ما شاء، ثعلب يقلب موازين الحياة والأمور فيها بكل بساطة وسلاسة، ويستطيع أن يكون من أشرس وأنذل حيوانات الغاب، يستطيع أن يكون ذئبا شرسا مفترسا أو كلبا أو هرة أو نعجة أو نعامة تدفن رأسها في التراب حين يصادفها الخطر أو ديكا يتخايل بين الدجاج أو خروفا أو ثورا أو نسرا أو فأرا، يستطيع أن يكون أي حيوان كان من كان طائرا بأجنحته في فضاء السماوات أو سائرا بقوائمه الأربع على سطح الأرض. يستطيع أن يكون كل هذا ما عدا أن يكون إنسانا. هكذا كانت الوصية الأولى لنا نحن مجتمع الحمير: "كن حيوانا لا إنسانا". منذ وعيت الحياة وأنا مزعوج من هذا الأمر، فقد جربت وأصبحت ملك الغاب ولم يعجبني الأمر: حيوان مفترس ليس إلا. جربت أن أكون ثعلبا فلم يرق لي الأمر فكان سهلا علي أن أخدع الحيوانات جميعا ولكن من العيب علينا نحن الحمير خداع الحيوانات من أمثالنا، فلذلك تركت الأمر. فعدت حمارا. جربت أن أكون ثورا، آه من الثيران وعالمها، لم يرق لي الأمر مطلقا فالوظيفة التي يقوم بها الثيران سطحية ويقوم بها غالبية الحيوانات بحرية ومن دون منة. جربت أن أكون تيسا، فعجبت من عالم التيوس ثم هربت. جربت أن أكون نعجة فكانت السكين دوما حول رقبتي من الإنسان والحيوان على حد السواء. لا أود أن أطيل فقد جربت كل الأشكال الحيوانية فلم تعجبني إطلاقا وحموريتي أرحم وأجمل وأمتع، فبقيت حمارا كما أنا. غير أن أمر تحريم أمر تحولنا إلى بشر أزعجني فعدت إلى تاريخنا وحاولت أن أجد الجواب الشافي لهذا الأمر المضني والمؤرق. "كن حيوانا لا إنسانا. تمعنت في هذه الجملة التي صاحبتنا نحن الحمير منذ نشوئنا محاولا أن أجد فيها جوابا لمعضلتي هذه فلم أجد. عدت إلى تاريخ أجدادي الميامين فوجدت رسالة حميرية تنوطي في سطورها الإجابة التنويرية فهي تقول إن التحول إلى إنسان صعب جدا فهو ليس كما التحول إلى حيوان آخر، فالتحول إلى إنسان يتطلب جهدا جهيدا ووعدا ووعيدا وخطا لا يمكن فيها للحمار أن يحيد. فشدني هذا الأمر وواصلت الإطلاع على ما جاء فيها فإذا بها تقول إن أسوأ ما في التحول من حمار إلى إنسان هو ستر العورة ولبس الثياب وعدم التحرش بإناث البشر إلا بتصريح رسمي وهذا ما ليس باستطاعتنا لحبنا الكثير في مغازلة الأتان في كل مكان وزمان. وجاء بالرسالة التنويرية أمور كثيرة لن أزعج أحدا بسردها وذلك لأني عزمت جادا على أن أكون إنسانا. أخبرت الحمير جميعا التي تحيا معي في الزريبة بعزمي على التحول إلى إنسان، فنهقوا نهاق الساخرين وظنوا بي ظن المجانين وأطاروا الغبار بحوافرهم الخلفية، وقالوا بصوت واحد انظر حولك في كل البشر الميامين هل ترى إنسانا واحدا فيهم! قالوا صحيح إنهم يولدون بشرا ولهم أدمغة تفكر وألسنة تتحدث بلغة مفهومة بينهم غير أن عددا قليلا منهم أصبح إنسانا بالمعنى الحقيقي للكلمة. لم أحفل بهذا النهيق المعيق للحركة وعزمت عزما أن لا أعود أبدا إلا بعد أن أكسر هذا الطوق الذي فرضه الأجداد علينا كي لا نتحول إلى بشر. وفي حفلة رهيبة على خلاف كل الحفلات التي تقيمها الحمير لمن يريد أن يتحول عن حموريته تم فيها الرقص على أربع و النهيق على ضوء القمر الذي حجب بعض أشعته طائر الفينيق حتى ساعات الصباح الأولى ثم تحولت إلى بشر في وسط الزريبة أمام نظر جميع الحمير. كنت عاريا جدا كما ولدتني أمي. في الحال سكنت كل جارحة حميرية في الزريبة، فقد ظنوا "وإن بعض الظن إثم" بأني صاحب الزريبة وقد جننت من نهيقهم طوال الليل وأتيت أعاقبهم لما أحدثوه من ضجيج. جئت عاريا لعدم تمكني من ارتداء أي شيء يستر عورتي نتيجة فورة الغضب التي أصابتني. كان هذا هو الدرس المؤلم الأول، فقد هجم علي جمع من الناس وأشبعوني ضربا لكوني كنت عاريا. لم أفهم الأمر إلا بعد أن سال الدم من جميع أطرافي. وتساءلت لحظتها ما الفرق بيننا نحن الحمير وبني الإنسان فكلانا يدمي ويشبع ضربا بسبب أو من دون سبب. حاولت أن اعود أدراجي إلى سابق عهدي كحمار، غير أني تذكرت إني لا استطيع العودة قبل أن أدخل في عشر تجارب إنسانية، كما إني دخلت في غيبوبة طويلة بعض الشيء. لا أعرف كيف ولكني وعيت بعد الضرب المبرح من الغيبوبة وأنا أرتدي أقمشة مزركشة وكمادات تظهر عليها آثار الدماء في أماكن مختلفة من جسدي ومرمي في أحد الأزقة التي طالما كنت أحمل على ظهري المتاع الى الدور التي تقع فيها. أعرف سكان هذا الحي معرفة جيدة، وأتذكر في هذا البيت - الذي استظل لظله - امرأة طالما داعبت رقبتي وقدمت الي كثيرا من الماء وبعضا من الطعام، قلت في نفسي دعني أجرب دق الباب وأطلب بعض الماء، فما أن تطاولت يدي على دق المقبض حتى خرجت الي المرأة نفسها وكانت سليطة اللسان وأمطرتني بوابل من المفردات التي لم أفهم لها معنى ولكني عرفت من نبراتها انها غاضبة جدا. ثم طل علي رجل له شوراب طويلة وشتمني وقال وادعى اني كنت أفعل ما ليس مسموحا لي به. لم أطل الوقوف فأسرعت الخطى وأنا أفكر كيف يحصل أن يعاملنا البشر نحن الحمير معاملة أفضل من معاملتهم للبشر مثلهم. وأنا أسير هائما على وجهي وقد تلطخت ثيابي المزركشة وأصبحت في حال غير الحال الأول وإذا بأطفال صغار تبدو الوسامة على وجوههم والنظافة على ثيابهم يصرخون بي "مجنون" ويرمونني بالحجارة من كل صوب ولا من أحد يردعهم أو يوقفهم عند حدهم، وبما اني جديد على عالم الإنسانية فلم أعرف كيف أتصرف معهم وظللت أفر سريعا وهم يتبعوني كلما فررت زادوا في متابعتي حتى سال الدم من رأسي. ندمت ندما شديدا لأني خالفت الوصية الحميرية: "كن حيوانا لا إنسانا". وتذكرت جحوشنا وكم هم لطاف عفاف مؤدبين يمرحون في زرائبهم مرحا لم تعرف الحيوانات له مثيلا. ندمت يوم لا ينفع الندم. في أحد الأيام وإذا بموكب مهيب وحشد فريد يمر بقربي وأنا ملتف بالأثواب المزركشة المتسخة جدا ورائحتي العفنة تفوح من كل جوانبي، رائحة لم أجرب مثلها ابدا وأنا حمار أتمرغ في التراب في زريبتنا المعطاء. كان الموكب للرجال دون النساء، كانت النساء على الأرصفة تشاهد الموكب فاتحة افواهها منبهرة بهذه الاحتفالية. وهن مندهشات مما يجري حولهن يرمونني بنظرات غريبة وبكلمات استعطاف: "مسكين" "ياحرام" "فقير" "يكسر الخاطر" غير انهن لا يفعلن غير هذا. حال أن انتهى مرور الموكب وإذا برجال ينقضون علي انقضاض النسر على الفريسة ويحملوني ويودعوني في مبنى فيه رجال كثيرون يقال عنهم مجانين. جالستهم لفترة طويلة بعد أن أخذوني وأدخلوني غرفة صغيرة تدعى حمام ورشوني بمياه حارة ثم رشوني بسائل بني يقولون عنه إنه مطهر والبسوني ثيابا بيضاء وأعطوني أقراصا ذات ألوان عدة وخلدت لنوم عميق ولم أصح إلا وأنا على كرسي فريد وأمامي رجل يضع نظارات على عينيه ويرمقني بنظرات غريبة ثم قال: "كم عمرك؟" لم أكن أعرف بما أجيب، صمت لحظات ثم نظرت حولي فوجدت ورقة مكتوبا عليها: "العمر ثلاثون" فقلت "ثلاثون" ثم سجل هذا في ورقة وسألني أسئلة أخرى كثيرة منها "متزوج؟" "عندك أولاد؟" "وين تسكن؟" "متعلم؟" "تشتغل؟" بعض منها تمتمت بأشياء صعب عليه فهمها وإجابات صمت كما الحيطان. لم أر وجه ذلك الرجل من بعد أبدا. كل ما أعرفه انهم كانوا يأتوني ببعض الأقراص الملونة وأنام نوما طويلا وعندما أصحو أناقش أمورا مع الرفقاء ذوي الثياب البيضاء لم تفدني أو تفدهم بشيء. في احد الأيام وبعد أن صحيت وإذا بأحدى النساء اللواتي كن هناك أتتني بملابسي المزركشة في كيس وأمرتني بارتدائها وأعطتني كمية لا بأس بها من الأقراص الملونة وقالت: "أنت مرخوص. اذهب إلى بيتكم" فتحوا لي الأبواب وخرجت لا أعرف إلى أين. تجارب كثيرة مؤذية تزيد على العشر والمئة والألف مررت بها من أناس يفترض فيهم العقلانية والرجاحة، ولاأزال أمر بكثير منها. أعرف اني عاجز الآن عن العودة إلى أصلي حمار، وليس باليد حيلة. ونادم أشد الندم لعدم انصياعي لوصايتنا الحميرية: "كن حيوانا لا إنسانا". لم أستطع ولن أستطيع أن أعود حمارا بعد الآن لأن التحول شكليا بشريا غير ممكن إلا إلى صورة أقبح مما أنت عليه فنحن الحمير لسنا قبح إطلاقا. كما ان البشر وعلى خلاف الحال في مملكتنا الحيوانية باستطاعتهم التحول أو كما يسمى عندهم "المسخ" روحيا إذ تنتقل الروح فقط من جسد إلى جسد وتبقى أجسادهم على ما هي عليه من دون تغيير، يبقون كما هم على صورة إنسانية ولكن في الحقيقة هم روحيا شيء آخر، حيوانات مفترسة ربما، أو حيوانات مدجنة، أو شيء أشر من الحيوانات كافة. رضيت بما قسم لي من نصيبي من الحياة بسبب حماقتي التي لا تعادلها حماقة لرغبتي تلك في أن أصبح إنسانا على خلاف وصيتنا الحميرية "كن حيوانا لا إنسانا". وتحولت كما هو الحال عند بشر كثيرين روحيا حمار وجسديا بشرا فصرت: حمشر لا حمار ولا بشر





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً