في صيف العام الماضي، وقع حادث أثار غضب أحد الصحافيين اللبنانيين في جمهورية شمال قبرص. ففي أثناء زيارة وفد صحافي من أربعين شخصا لمبنى السفارة التركية هناك، قام أحد موظفي الخارجية باصطحاب زميلنا إلى ركن في الحديقة، وقدمه إلى صحافية أجنبية. وأثناء المصافحة، قدم القبرصي المرأة على انها صحافية اسرائيلية. في هذه اللحظة ثار زميلنا اللبناني ثورة عارمة وأخذ يصرخ بوجه الموطف البليد أمام الحضور: لماذا تورطني بمصافحتها؟ حاول الموظف تبرير ذلك بأنه أحب أن يتعارفا، فزاد هياج اللبناني أكثر، وأخذ يصرخ: من الذي خولك لتقديمي لها؟ هل تعرف أن دولتها تمثل عدوي، هي التي قتلت قومي، دباباتها تسحق أطفالي في فلسطين كل يوم وأنت تريدني أن أصافحها؟ الاسرائيلية جمدت في مكانها، ولم تتمكن من الرد أو الهرب من هذه الورطة، وشاهدتها من بعد وقد احتبست الكلمات في بلعومها! لما عاد إلينا كان وجهه محتقنا، ولم أدري ما الذي حوله إلى بركان متفجر في لحظات. سألته فأجاب: "هذا الغبي يريد أن يقتلنا. يريدون أن يحطموا سمعتنا، نحن لا نقبلهم، تصور أن يلتقط أحد صورة لك وأنت تصافح اسرائيلية، أليس في ذلك إعدام لك؟ كل يوم يقتلون أهلنا في فلسطين، وهذا الغبي يريدني أن أتعرف عليها! في آخر عمرنا نصافحهم! صحافي من لبنان، الذي خرجت منه "حراس الأرز"، ومن قبلها الكتائب، التي كانت تدعو إلى تصفية الفلسطينيين، فكيف بالبحرين التي كانت تعيش وتبكي نكبتهم منذ خمسة وسبعين عاما، أتستكثر "كتائب الموالاة" على هذا الشعب التعبير عن رفضه إنهاء مقاطعة "إسرائيل"، وفتح أسواقنا لبضائعها؟ هل القضية بهذه التفاهة حتى تمر ولا يحتج عليها أحد؟ أليس هذا خللا في التفكير، بحيث يقال إن هناك مبالغة في الطرح؟ ألا يدرك هؤلاء انها الخطوة الأولى التي ستنتهي بالتطبيع إذا سكت الرأي العام؟ أم ان هذا الشعب قطيع من الأغنام لا رأي له في سياسة داخلية ولا خارجية؟ هل نحن في دولة ديمقراطية يؤخذ برأي شعبها، أم في إقطاعية من القرون الوسطى، تباع بما فيها من حيوانات ومحاريث وأبقار ومخلوقات تافهة يسمونها "بشر"! هل هذا طرح من يحترم نفسه وشعبه؟ وأين المبالغة؟ وهل تنحصر القضية في صناديق الفاكهة الأردنية التي تباع في السوق المركزي وسوق المحرق وسوق جدحفص، أم أن هناك صفقات أكبر تتكلم عنها الصحافة العالمية ويراد تمريرها بعيدا عن أعين الناس، ويعمل هؤلاء على التغطية عليها والتهوين من أمرها؟ كل هذه "الكبائر" لا تقلق سماحتهم "قدس الله ظلهم!"، إنما يثير قلقهم "سهولة الاستدراج الخارجي للأحزاب المحلية وتحريكها نوابا وكتابا وجمعيات"، خلط متعمد للأوراق، وكلام مرسل ورخيص، لا يساوي خردلة في سوق الصدق والوطنية. وهي شاهد صدق على الدرجة التي تنحط إليها الكتابة، حين يصبح الحديث عن القضية الفلسطينية استدراجا من الخارج... فهل هناك قاع للهراء والكذب والتمويه؟ مع هؤلاء، أما أن تكتب لتبرير الخطوة الحكومية المرفوضة شعبيا، وإما أن تكون مدفوعا من الخارج، سواء كنت نائبا أو كاتبا أو جمعيات! وإذا كنتم تسلمون أن الكتابة في البحرين لا تتم إلا نقدا، "وكل يرى الناس بعين طبعه" فكم بلغ سعر المقال الأخير في بورصة الموالاة؟ ومن حقنا أيضا أن نسأل طلبا للحقيقة المحضة: من هي الجهة "الخارجية" التي استغفلت النواب واستدرجت الكتاب؟ عقلية نمطية ذات بعد واحد، من بقايا "عهد أمن الدولة"، كل حدث لابد أن يكون وراءه حملة منظمة، ولابد أن يكون هناك "اختراق" و"مؤامرة"، وأجندات "تقتحم علينا خصوصيتنا وتبدل أولوياتنا"، فما هي "أولوياتكم" بالمناسبة؟ رفع المقاطعة تمهيدا للتطبيع كما قال جهاد الخازن؟ قولوها بصراحة وشجاعة لكي لا يبح صوتنا من الصراخ! قبل يومين كتبنا عن إجماع الشعب على رفض انهاء مقاطعة "اسرائيل"، وكنا نعتقد انه لن تجد الحكومة واحدا من "كتيبة الموالاة" سيدافع عنها في رفع المقاطعة، لكن يأبى هؤلاء إلا أن يثبتوا على أنفسهم التهمة: "أنا أدافع عن الحكومة فأنا موجود"! هذا الحزب "بايع وامخلص"، يطلق الكذبة ويسير وراءها دون حياء، مع ما تعنيه من تسفيه لهذا الوطن ونوابه وجمعياته وشعبه ومثقفيه: "يمكن لأجندات قوى أجنبية، إسلامية أو عربية أو أجنبية، تشغيل الماكينة الإعلامية المحلية كآلية تشكيل رأي عام". "بايعين وامخلصين"، إذ أصبح طرح رأي في قضية إسلامية عربية... "أجندة أجنبية"! حزب يرغي ولا يفكر، يرد ولا يفقه، يوزع التهم دفاعا عن الخطيئة. ويعمى عن قناعات شعب تربى عليها خمسين عاما، رفضا لدولة الظلم والعدوان وجرثومة الشر. بقينا مع زميلنا اللبناني خمسة أيام في شمال قبرص، وكان كلما ذكر لحظة مصافحة الاسرائيلية يثور غضبه ويلعن ذلك الموظف البليد... أما مجندات كتيبة "الموالاة"، فكلهن رغبة في تهيئتنا لاستقبال الاسرائيليين بالأحضان!
إقرأ أيضا لـ "قاسم حسين"العدد 1118 - الثلثاء 27 سبتمبر 2005م الموافق 23 شعبان 1426هـ