العدد 1118 - الثلثاء 27 سبتمبر 2005م الموافق 23 شعبان 1426هـ

ماذا بقي من عبدالناصر؟

وليد نويهض walid.noueihed [at] alwasatnews.com

كاتب ومفكر عربي لبناني

الحلم والصدق والإخلاص. هذا ما بقي من جمال عبدالناصر في ذكرى رحيله في مثل هذا اليوم "28 سبتمبر/ أيلول 1970". فمثل هذه المفاهيم أصبحت بالية في أيامنا ولكنها تبقى في الذكرى تلك المنارات التي حاول هذا القائد ان يحولها إلى حقيقة. فهذا القائد حين كان محاصرا في الفالوجة "فلسطين" في حرب العام 1948 ارتسمت في ذاكرته معالم حلم الوحدة والتغيير. ومن ذاك الحصار ادرك باكرا المخاطر التي تحدق بالأمة وفي طليعتها الفساد الذي أهلك النظام وأضعفه داخليا وخارجيا. بدأ الحلم في فالوجة فلسطين وهي البلدة التي سقطت بالمفاوضات التي جرت لاحقا في رودس ولم تهزم عسكريا. وبسبب صمود عبدالناصر في الفالوجة برز اسمه كأحد ابطال حرب فلسطين. من فلسطين ونكبتها اذا ارتسم حلم عبدالناصر ومنها أخذت المعالم تتسع لتشمل مصر والأمة وتلك الدوائر التي تحيط بها. أحلام عبدالناصر كانت واقعية ومشروعه السياسي نهض على قواعد بسيطة تمثلت في صدقية التعامل مع الأصحاب والأصدقاء بدءا من تنظيم "الضباط الاحرار" الذي قاد الانقلاب/ الثورة في 23 يوليو/ تموز 1952 وصولا إلى تأسيس "مجلس قيادة الثورة" الذي ضم نخبة من الرعيل المؤسس لدولة مصر الحديثة. إلى الحلم والصدق شكل الاخلاص لمبادئ الثورة والعمل على تحقيقها الهاجس اليومي لهذا الشاب الطموح الذي ينتمي إلى أسرة فلاحية من ريف مصر "الصعيد". فابن الصعيد حاول قدر الإمكان ان يطور الريف ويرفع عن أهله تسلط الاقطاع وما مثله من اذلال واهانة للناس البسطاء وما أشاعه فيهم من أمية وجهل وفقر وتبعية وأمراض لا شفاء منها. شكلت المسألة الزراعية نقطة مهمة في تفكير ابن الصعيد الذي عانى الحصار في فالوجة فلسطين. وبسبب تلازم العلاقة بين الصعيد "الريف" وفلسطين "الهزيمة" ارتبطت في ذهن عبدالناصر المسألة الاجتماعية بالقضية القومية. فتحرير فلسطين لا يتم اذا استمرت علاقات الذل والاستتباع في الداخل وفي تسلط أنظمة الاقطاع وتخلفها عن مواكبة العصر. أفكار عبدالناصر الحالمة كانت واقعية. فهي كانت متواضعة ولكن وقعها السياسي كان قويا نظرا لبساطتها وقدرتها على تلبية حاجات المرحلة. تلازم الفكرة الاجتماعية مع الفكرة القومية تأسس في تجربة عبدالناصر من الواقع لا الكتب والايديولوجيات. فهو نتاج تربة وطنية مصرية فلاحية طمحت إلى نقل المدينة إلى الريف حتى يتوقف زحف الريف إلى المدينة. زحف الريف إلى المدينة شكل مشكلة للدولة وحتى تتم معالجتها كان لابد من تأمين حياة المدينة في الصعيد من خلال تأسيس المستشفيات وفتح المدارس وتوسيع الترع ومد شبكات المياه والكهرباء. وحتى تكتمل الخطة الطموحة اقتضى الأمر ان يقوم عبدالناصر بخطوتين: الأولى، الإصلاح الزراعي. والثانية، بناء السد العالي. الخطوة الأولى أسهمت إلى حد ما في توزيع ملكيات الأرض بشكل عادل بين الملاك والفلاحين. والثانية ساعدت على تكوين احتياط من المياه سهل عمليات إنتاج الكهرباء وتوزيعها على مناطق محرومة. هذا الشاب الحالم والصادق والمخلص أسس مجموعة أفكار بسيطة ولكنها في غاية الأهمية في حال نظر إليها في إطار زمني واستراتيجي. فعبدالناصر أكد مفهوم الوطنية "المصرية" ولم يعزله عن البناء الاجتماعي وما يتفرع منه من حاجات ومتطلبات تحصن الوطنية وتحميه من الاختراق والانهيار. وعبدالناصر لم ير مصر خارج الجغرافيا ومحيطها القومي والإقليمي والقاري والديني. فإقليميا هناك السودان "العمق الاستراتيجي لنهر النيل" وهناك اليمن "العمق الاستراتيجي للبحر الأحمر". وقوميا هناك العرب والعروبة والقومية العربية وما تعنيه من مفاهيم تتصل بالثقافة والتضامن والوحدة والحرية والاستقلال والسيادة. وقاريا هناك افريقيا وهي في "فلسفة الثورة" تشكل دائرة من الدوائر الثلاث ونقطة اتصال مضيئة مع حركات التحرير والاستقلال والكفاح ضد الاستعمار والعنصرية والتفرقة والتمييز بين البشر. ودينيا هناك الإسلام. فالإسلام في وعي عبدالناصر هو الرافعة الحضارية للأمة وهو الأساس الدستوري/ التشريعي للدولة وهو أيضا دين الناس وتاريخهم والمكون الرئيسي لعاداتهم وتقاليدهم وعلاقاتهم. اشتراكية عبدالناصر ووطنيته كانتا متموضعتين اجتماعيا ومرتبطتين بروح الأمة وعناصرها القومية والإقليمية والقارية... وهذه كلها تدور في فلك الإسلام. فالإسلام عند عبدالناصر هو الهوية الجامعة وتحت مظلته تتراتب الهويات وتتجمع لتعزيز موقعه ودوره وقيادته للتحولات التي ارتسمت في ذهن ذاك الشاب الذي حلم بمصر من نوع مختلف حين كان محاصرا في فالوجة فلسطين. افتقدنا عبدالناصر. فالأمة التي ارتفع رأسها في أيامه خسرته حين رحل في لحظة كانت بحاجة إلى أمثاله. إلا أن الأمة التي تعاطفت مع أحلامه وصدقه وإخلاصه من الصعب ان تنسى ذاك المشروع البسيط/ الطموح إلى تحقيق أهداف ليست صعبة ولكنها تحتاج إلى ارادة وعزيمة وثقة بالنفس لإعادة إنتاجها وتحقيقها. وهذا ليس مستحيلا

إقرأ أيضا لـ "وليد نويهض"

العدد 1118 - الثلثاء 27 سبتمبر 2005م الموافق 23 شعبان 1426هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً