منذ سنوات بعيدة، كنت اطرح هذا السؤال على كل من يقصدني طالبا العمل في الصحافة: "هل تبحث عن عمل أم تريد ان تعمل صحافيا؟". بعضهم كان يرد: أي عمل لديكم. والبعض الآخر يتردد قليلا ويجيب: اريد ان اعمل صحافيا. والبعض الآخر يتساءل: ما الفرق؟ والبعض: أبحث عن عمل. جواز المرور هنا: اللغة. ثمة اعتقاد سائد ان كل من يملك اسلوبا مقبولا في الكتابة وعرض الافكار يصلح ان يكون صحافيا. اما التجربة فقد أثبتت ان هذا خطأ كبير. لو حولنا وجهة السؤال الى ميدان التربية والتعليم: هل يبحث الخريجون عن وظيفة بعد الجامعة أم يريدون أن يكونوا معلمين؟ الفارق واضح وستدركونه بأقل قدر من الصحافة. فالفارق كبير بين ان تكون حائزا على اجازة جامعية وبين ان تكون معلما جيدا. ذلك ان التعليم مثله مثل الصحافة واية مهنة تتطلب مهارات عالية. فهما يحتاجان للمهارات والملكات الذهنية والنفسية والقدرات الشخصية اكثر من الاسلوب والشهادة الجامعية. الصبر خصلة أخرى تجمعهما، وأولئك الذين لا يملكون الصبر والمثابرة من الصحافيين ربما غادروا المهنة وربما مازالوا يراوحون في أماكنهم. اترك لخيالكم الاستنتاج الآخر المتعلق بمعلمين ومعلمات نافدي الصبر. نقطة البداية هنا: النوعية. كل هذا الجدال والشكاوى بشأن التعليم تتعلق بالنوعية. كل الانتقادات والخطط تتعلق بالنوعية، تلبية احتياجات سوق العمل تتمحور حول النوعية. تطوير مناهج التعليم يتعلق بالنوعية. في الحقيقة لا يمكن مناقشة التعليم إلا من باب النوعية والمستوى، وأي جدال خارج هذا السياق لا معنى له. اولئك الذين كانوا يجيبون: نريد أية وظيفة لا يصلحون للعمل. فهؤلاء لا يبحثون عن النوعية ولا تهمهم وليست في أولوياتهم، انهم يريدون ان يعيشوا فحسب وهذا حقهم، لكنهم طرقوا الابواب الخطأ. هذا عن الصحافة، أما في التعليم فان الخريجين الذين يفترضون توظيفهم كمعلمين يجب أن يتم بشكل أوتوماتيكي بمجرد تخرجهم فمخطئون أيضا، لكن لا ذنب لهم في هذا الخطأ. لا ذنب لهم ان هم ارادوا ان يعملوا ويكسبوا عيشهم. لكن هذا خطأ شائع ويستحوذ حتى على الصحافة. اقرأوا هذه الشكوى كما نشرت في إحدى الصحف المحلية: "لماذا لا تتم الاستعانة بخريجات التربية الاسلامية اللواتي تعجز وزارة التربية عن توظيفهن في تخصصاتهن في سد الحاجة لمواد أخرى كالتربية الأسرية والمجالات العملية؟... ألا يصلحن لهكذا وظيفة تنقذهم من البطالة التي يعانينها". أما عنوان الرسالة فهو يوحي بـ "أي وظيفة يا وزارة التربية". بطالة الخريجين هذه محيرة. افضل الاجوبة المتاحة لها: لا شواغر في هذا التخصص. أو العكس: نقص في عدد البحرينيين في تخصصات محددة بذاتها. وإذا تعلق الامر بالخريجين فلديهم من التفسيرات الكثير، لكنها ابسط التفسيرات: انحياز، طائفية، وساطات. الاتهامات التي يحركها الضيق والحنق في الغالب، لكن الاجوبة حتما تتعدى تلك التي تتردد: الشواغر والندرة. انها تقترح ان الوزارة ربما لا تعرف ماذا تريد، فتطوير التعليم عبارة مفضلة ومتكررة على لسان مسئولي التربية. ومنذ اواخر العام الماضي اصبحوا اكثر تشويشا وهم يسمعون مثلنا عن خطة اصلاح التعليم كمحور اساسي في اصلاح الاقتصاد الذي اوصت به دراسة ماكينزي. لهذا فإن المفردات تتكرر والشكاوى ايضا. عدا ان النوعية وتطوير التعليم مفردات لا تتردد كثيرا خارج مبنى الوزارة. فالخريجون لا يكترثون لها لان أولويتهم هي الحصول على الوظيفة فحسب. ومن أجل هذا، لم يشذ خريجو التخصصات التربوية عن المزاج السائد في البلد فلجأوا الى الاعتصامات. وعندما تدقق في آخر الصور المنشورة لاعتصام خريجي الخدمة الاجتماعية، ستطالعك صورة لأفراد مصطفين بشكل منظم خصيصا من أجل الصورة والابتسامات تعلو محياهم ولا ينقصهم سوى رفع أصابعهم بعلامة النصر. وفي صورة ثانية كانوا يرفعون علم المملكة والمشهد لا يبدو غريبا ولا يستوقف أحدا لأنه يشبه مشاهد أخرى: رابطة مشجعين، اعتصام سياسي أو مطلبي. أي من ذلك النوع من المشاهد التي تكررت على مدى ثلاث سنوات وأكثر. يعيدنا هذا الى سؤال النوعية حتما. مدرسون يفرضون توظيفهم بأساليب الاحتجاج الجماهيري؟ يبدو هذا على رغم كامل التقدير لحق التعبير بعيد الصلة بالتعليم كمهنة تتطلب مواصفات خاصة ونوعية. انها المهنة الاهم على الاطلاق لكن هذا الالحاح على التوظيف الاوتوماتيكي يدفع بالتعليم والجدال بشأن التعليم بعيدا عن النوعية والمستوى. منذ ان دشن البرلمان اعماله قبل نحو ثلاثة أعوام ونصف العام، لم تتردد مفردات كهذه تحت قبته عندما يتعلق الامر بالتعليم: تطوير التعليم، تطوير مستوى المعلمين وتأهيلهم. التعليم كما تعامل معه النواب تم اختزاله في الحاح على التوظيف وانتقاد التوظيف من الخارج مثلما يلح دوما النائب محمد آل الشيخ، فصل الجنسين في الجامعة مثلما يلح النائب جاسم السعيدي، تدريس المذاهب الخمسة "عبدالله العالي، آل الشيخ". واقتراحات من ذلك النوع الذي يداعب الآمال: إلغاء أي نوع من الرسوم او المصاريف والمطالبة بتحمل الوزارة كل المصاريف مثلما يقترح النائب جاسم الموالي. لا شيء في هذه المطالب له صلة بتطوير مستوى التعليم، وفي نهاية المطاف لا أحد يشغله مستوى التعليم أو تطويره نوعيا. ولا أحد يقلق من هذا التردي في المهارات الذهنية لدى طلاب الثانوية وطلاب الجامعة أيضا. وعندما يبحث الناس عن أجوبة فليس لدى المعنيين جواب واحد يتعلق بمستوى المتقدمين للعمل كمعلمين. لقد تم اعتماد اسلوب الامتحانات وفحص القدرات منذ سنوات وتقبله الخريجون على مضض كمقياس عادل لاختيار الاكفاء. لكن اعداد الخريجين إلى تزايد والطلاب أيضا، والشكوى والاجوبة نفسها تتكرر... ثمة خلل بالتأكيد. لكن المؤسف ان مثال الصحافة مثال سيء، فالناس تقيس على الموجود والسائد وما يقرأه الناس في الصحف لا يتطلب الكثير من المهارة. وفيما خص التعليم تكفي الشهادة الجامعية ويكفي أن أكون مواطنا.
إقرأ أيضا لـ "محمد فاضل العبيدلي"العدد 1117 - الإثنين 26 سبتمبر 2005م الموافق 22 شعبان 1426هـ